مدخل لدراسة النقد الأدبي عند العرب
قدمت في 3 أبريل 1986م
تتشابك دراسة النقد الأدبي مع كثيرٍ مِن فروع الدراسات الأدبية التي تُمهِّد له، وتستفيد مِن نتائجه، فهنالك هذه الصلة القوية التي توجد بين نظرية الأدب والنقد الأدبي؛ حيث تعتمد "نظرية الأدب" على الأصول الفنية والخطوط العامة لكل جنس أدبي، وهي أصول لا تستقرُّ إلَّا من خلال مناقشات تحليلية قد تستمر على مدى أجيال متتابعة، ويسهم فيها النقد الأدبي بدور كبير.
في الوقت ذاته فإن الصلة بين "تاريخ الأدب" و"النقد الأدبي" تبدو صلة حميمة؛ فمؤرخ الأدب لا يستطيع تصنيف الأعمال الأدبية ووضع كل عمل في إطاره تمهيدًا لدراسته مع نظائره، إلا من خلال المعرفة الدقيقة بالنقد الأدبي، والناقد الأدبي بدوره لا بد أن يضع في اعتباره التاريخ الأدبي للنص الذي يَتعرَّض له، ومدى إفادة النص مِن التراث الفني الذي سبقه، ومدى قدرته على تأويل ذلك، ثم إن النقد الأدبي من ناحية ثانية يستطيع أن يتنبأ بالمسار الذي يُمكن أن يأخذه التاريخ الأدبي في المستقبل من خلال علائم فنية يهتدي إليها، ويكشف عنها، ويحاول أن يُوجِّه مسار الحركة الأدبية من خلالها، والعلاقة كذلك بين النقد الأدبي والأدب المقارن تشتد وخاصةً في مناهج الأدب المقارن الحديثة التي تود أن تهتدي إلى علائم الرُّوح الفنية الكامنة في آداب الشعوب المختلفة ونقاط الالتقاء بينها، وسبيلها الأول إلى الاهتداء إلى هذه العلائم يكمُن في دراسة النقد الأدبي والاهتمام به.
ولا تقتصر صلة النقد الأدبي على هذه العلوم وحدها، فهو يمتد بالطبع إلى علوم اللغة بدرجاتها المختلفة، ويمتدُّ كذلك إلى الفلسفة...
ومنذ العصر الجاهلي عُرِفت ألوان من النقد الأدبي، كانت تتمُّ على أيدي الشعراء أنفسهم في معظم الأحايين، وقد أخذ ذلك عدة مظاهر منها:
(1) القصائد الحولية المحككة:
وهو مصطلح ظهر في العصر الجاهلي، وأُطلق على إنتاج مجموعة من الشعراء عُرفت بالتدقيق الشديد في قصائدها ومراجعتها حتى إن القصيدة كانت تستغرق حولًا كاملًا؛ ومن هنا سُمِّيت "حولية"، ومن أشهر من طبَّقوا هذا النظام: أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، والحطيئة.
(2) الاحتكام:
كان الشعراء يلجؤون إلى مَن يُفاضل بينهم، وكان الحَكَم يأخُذ لقب "القاضي" ويُصدر حكمه بتفوُّقِ أحد الشاعرين أو النصَّين، ومن أشهر قضايا النزاع ما حدث بين امرئ القيس وعلقمة بن عبدة حين احتكما إلى "أم جندب" زوجة امرئ القيس، فأنشداها بيتين في وصف الفرس، قال امرؤ القيس:
فلِلسَّوطِ أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ *** وللزَّجْرِ مِنْه وَقْعُ أخْرَجَ مُهْذِبِ[1]
وقال علقمة:
فأَدْركَهُنَّ ثانيًا مِنْ عِنانِه *** يمُرُّ كَمَرِّ الرَّائحِ المتحَلِّب[2]
فقالت لزوجها: علقمة أشعرُ منك؛ لأنك أجهدت فرسك بسوطك وساقك، أمَّا هو فقد أدرك فرسه الهدف دون أن يضرِبَه سوطٌ أو تتبعه ساقٌ.
(3) الأسواق الأدبية:
وهي تقليد امتدَّ من الجاهلية إلى الإسلام، ومِن أشهر أسواق الجاهلية سوق عكاظ، التي كان يجتمع فيها الشعراء فيُنشدون ويتلقون النقد ملاحظة لهم أو عليهم مِن جمهور سامعيهم، أو من كبار الشعراء، وقد كان النابغة يجلس في السوق، وتُضرب له قُبَّة حمراء، ويجتمع حوله الشعراء فيستمع إليهم، ويحكم فيهم، وقد امتدَّ هذا التقليد إلى العصر الإسلامي؛ حيث كان سوق "المربد" بالبصرة يشهد في العصر الأموي حلقة لجرير وأنصاره، وحلقة للفرزدق وأنصاره، يتبادل الشعراء فيها ما عُرف باسم "النقائض"، ومن خلال الاستماع تُولَد الملاحظات النقدية العابرة، كأن يقول الأخطل: "جرير يغرف مِن بحر، والفرزدق ينحت مِن صخر".
(4) مجالس الشعراء:
كانت مجالس الشعراء في العصر الجاهلي والإسلامي تدور فيها ملاحظات الشعراء بعضهم على بعض، وهي ملاحظات لا تخلو من قِيَم نقدية، ومن ذلك ما يُروى من اجتماع عمر بن أبي ربيعة وكُثيِّر عزة وجدالهما حول شعر الغزل، وكان كل منهما له طريقة خاصة فيه، فقال كُثيِّر لعُمر: إنك تتغزَّل في المرأة أولًا ثم تتركها وتتغزَّل في نفسك، أخبرني عن قولك: قالَتْ تَصَدَّيْ لَهُ لِيَعْرِفَنا...
وعلق قائلًا: أتراك لو وصفت بهذا حرة أهلك، ألم تكن قد قبحت وأسأت؟ وإنما توصف الحرة بالحياء والإباء والالتواء والخجل والامتناع.
هذه الأشكال النقدية التي ظهرت في العصرين: الجاهلي والإسلامي، بدأت تتسع وتأخُذ شكل التأليف العلمي المنظَّم في العصر العباسي، نتيجة لكثير من العوامل التي طرأت على الإبداع الأدبي ذاته في ذلك العصر.
كان الشعر قد بدأ يستعيد جزءًا من مكانته التي كانت قد اهتزَّت قليلًا في أوائل ظهور الدعوة الإسلامية؛ بل أصبح الشعر عنصرًا هامًّا من عناصر الثقافة الإسلامية، يُساعد على حفظ اللغة التي بدأت يُهدِّد فصاحتَها انتشارُ الدعوة في مناطق كانت أعجمية واختلاط اللهجات، وسارعت القبائل تجمع كل قبيلة شعرها، وسارع الرواة يجمعون الأشعار القديمة، وفي خلال هذا الإسراع، ظهرت فكرة "الانتحال"؛ أي: تأليف شعر معاصر ونسبته إلى القدماء، وكان لا بد للنقد الأدبي أن يُؤدي دوره في حماية الشعر من الدَّسِّ عليه، وظهر في هذه الفترة كتاب: "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي (ت 231هـ)، وناقش الكتاب قضايا هامة ظلت موضع اهتمام النقاد حتى القرن العشرين، من أمثال قضية الانتحال والشك في الشعر المنسوب إلى عاد وثمود باعتبارهما قبيلتين عاشتا في زمن شديد القِدَم إلى جانب أنهما كانتا في جنوب الجزيرة العربية؛ حيث كانت اللغة السائدة هي لغة حِميَر، وهي تختلف إلى حد ما عن لغة مُضَر في الشمال.
وبالإضافة إلى ذلك يتنبَّه الكتاب إلى أهمية عنصر الزمان، فيُقسِّم الشعراء إلى طبقات، ويجعل للجاهليين طبقاتهم، وللإسلاميين كذلك، ويُشير إلى فكرة القدماء والمحدثين وضرورة أن يُعطى كلٌّ فرصته، وهي فكرة سوف يطوِّرها من بعده ابن قتيبة، ويُشير كذلك إلى تأثير المكان في الشعر، وإلى تأثير الظروف كالحروب على غزارة الإنتاج الشعري.
مِن زاوية أخرى تدور معركة التجديد في الشعر العباسي، ويقودها "الشعراء المحدثون" من أمثال: بشار بن برد، وأبي نُوَاس، ومسلم بن الوليد، وأبي تمام، ويثور جدل كبير حول مدى "الحداثة" في الصور التعبيرية التي أدخلوها إلى مجال الشعر العربي، وفي هذا الإطار يظهر كتاب "البديع" لابن المعتز (ت 296هـ)، يرجع فيه مؤلفه من خلال منهج نقدي بلاغي إلى أصول التراث العربي القديم في الجاهلية والإسلام ليكشف أصول هذه الصور التعبيرية فيه، وليسجِّل أن المحدثين لم يزيدوا على أن بالغوا في استخدامها، ولن يتوقف هذا الجدل حول "الجديد والقديم"؛ وإنما سوف يتركَّز حول شخصيتين يُمثِّل منهما اتجاهًا، وهما: أبو تمام والبحتري، ويظهر كتاب: "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" للآمدي (ت 371هـ) لكي يُقدِّم نوعًا من النقد المقارن يعرض فيه صاحبه حجج أنصار كل من الشاعرين، ثم يُوازن بين شعريهما، وإن كان الآمدي يميل إلى جانب البحتري قليلًا.
ولا ينتهي هذا القرن الرابع حتى يظهر كتاب: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للجرجاني (ت 392هـ)، وهو يمتد في مناقشته إلى أعماق التراث، فيقف أمام شعراء: كأبي نُوَاس وابن الرومي وأبي تمام، وأمام قضايا: كالشعر والفلسفة والسرقات، ويُعلن أن اهتمامه بمحاسن الشاعر سوف يفوق اهتمامه بعيوبه.
[1] الألهوب: اجتهاد الفرس في سيره، أخرج: ذكر النعام، مهذب: سريع.
[2] الرائح: السحاب، المتحلب: المتساقط.
المصدر
تعليقات
إرسال تعليق