إبيستيمولوجيا اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة
إبيستيمولوجيا اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة
حافيظ إسماعيلي علوي
يفتح الاختبار الإبيستيمولوجي المجال لفقه الذات بصياغة جديدة للأسئلة في خصوص النظر اللساني وحدوده وأشكاله ورسومه، فكما تتساءل اللسانيات عن أحوال اللغة وطرق جريانها لتصفها وتفسرها وتكشف عن منطق تصريفها... تتساءل إبيستمولوجيا اللسانيات عن هذا الخطاب ( الميتالغوي) ذاته، بقصد الكشف عن منطقه واستلزاماته وأصوله و مناهج تحققاته[1].
لا مراء في أن النماذج اللسانية العربية توحي بالاختلاف والتعدد، ولكنها، في الوقت نفسه، تفرض أسئلة من قبيل : ماذا قدمت هذه الكتابات المختلفة المتعددة للغة العربية؟ ما هي أسسها النظرية وأصولها المعرفية؟ وما هي شروط العلم والمعرفة التي تحكمت في صياغتها ونمذجتها؟ وكيف بنت نماذجها اللسانية، إن بنتها فعلا؟
لعل هذه الأسئلة وغيرها تدخل مباشرة في مبحث إبيستمولوجي محض لا يهتم فقط بالتحليل النحوي والبناءات اللسانية، بل بما ترتكز عليه من شروط علمية وتحيل عليه من مراجع وأسس نظرية[2].
أولا: الإبستومولوجيا : تحديدات أولية:
إن مصطلح » الإبستومولوجيا Epistémologie مصطلح جديد (...) صيغ من كلمتين يونانيتين Epistémè ومعناها : علم ، وlogos ، ومن معانيها : علم، نقد، نظرة، دراسة ... فالإبستومولوجيا ، إذن، من حيث الاشتقاق اللغوي هي "علم العلوم" أو "الدراسة النقدية للعلوم" ... و هذا ما يختلف كثيرا عن معناها الاصطلاحي«[3].
ويحدد أندري لالاند مصطلح إبستومولوجيا بالقول: تعني هذه الكلمة فلسفة العلوم، ولكن بمعنى أكثر دقة فهي ليست دراسة خاصة لمناهج العلوم، لأن هذه الدراسة موضوع للميتودولوجيا وهي جزء من المنطق، كما أنها ليست أيضا تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية (على الطريقة الوضعية)، إنها، بصفة جوهرية، الدراسة النقدية للمبادئ والفرضيات والنتائج العلمية، الدراسة الهادفة إلى بيان أصلها (المنطقي لا النفسي) وقيمتها الموضوعية. وينبغي أن نميز الإبستومولوجيا عن نظرية المعرفة، بالرغم من أنها تمهيد لها، وعمل مساعد لا غنى عنه، من حيث إنها تدرس المعرفة بتفصيل، وبكيفية بعدية في تنوع العلوم والموضوعات لا في وحدة الفكر« [4] .
استنادا إلى هذين التحديدين تكون إبيستمولوجيا اللسانيات العربية مقاربة تهتم بصورة المعرفة اللسانية في ثقافتنا، بغية تقويمها من جهة أسسها ومبادئها المصرح بها أو المسكوت عنها. وإذ تبين لنا أن النقد أساس من أسس التفكير الإبيستمولوجي فإننا نتساءل: هل خضعت الكتابة اللسانية العربية لأسس النظر النقدي السليم؟
قبل الاهتداء إلى إجابة عن هذا السؤال نشير إلى أن تأطير عمل ما في خانة التحليل الإبيستمولوجي يقتضي أن تكون مقدمة الانطلاق هي الكشف عن المقدمات الاستلزامية للنظر الإبيستمولوجي، وهي مقدمات نهتدي بواسطتها إلى استخلاص العبر المعرفية والقيم الإبيستمولوجية للسانيات مادامت الإبيستمولوجيا تقويما لنوع خاص من المعارف هو المعرفة العلمية[5]. فما هي المقومات التي تجعل من معرفة ما معرفة تمتلك حجية النظر الإبيستمولوجي؟
إن الحدود التي وقفنا عليه آنفا لا تتعدى حدود ربط المعرفة الإبيستمولوجية بالنقد. وحتى بالاحتكام إلى هذا الربط البسيط، فالملاحظ أن معظم الكتابات اللسانية العربية تفتقر إلى حجية النظر النقدي السليم، لذلك يتعين علينا تبيين المياسم التحديدية الدقيقة للإبستومولوجيا قصد الكشف عن أوجه التداخل بينها وبين بعض الدراسات المعرفية المتاخمة لها و من ذلك: " فلسفة العلوم"، و " نظرية المعرفة " و" الميتودولوجيا " و " تاريخ العلوم ".... ففي ضوء هذا التداخل بين هذه الفروع المعرفية يمكن الاهتداء إلى طبيعة الممارسة الإبستمولوجية عامة و إبستمولوجيا اللسانيات خاصة[6]:
1 ـ الميتودولوجيا: من اليونانية (Méthodos), و معناها الطريق إلى... المنهاج المؤدي إلى ... هي علم المناهج، و المقصود تحديدا مناهج العلوم. و المنهاج العلمي هو جملة من العمليات العقلية، و الخطوط العملية، التي يقوم بها العالم، من بداية بحثه حتى نهايته من أجل الكشف عن الحقيقة و البرهنة عليها.
2 ـ نظرية المعرفة:Gnoséologie و تختص بالبحث في إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله ومظاهره. و إذا كانت المعرفة ممكنة، فما أدواتها، و ما حدودها، وما قيمتها؟
3 ـ تاريخ العلوم: إن كل بحث عن الأسس التي يقوم عليها الفكر العلمي يستوجب بحثا في تاريخ العلوم. يقول بوترو (P.Boutroux): » إن تاريخ العلوم، مدروس بشكل ملائم، يزيد من حظوظنا في اكتشاف أسس التفكير العلمي واتجاهاته«[7].
4 ـ فلسفة العلوم: لا يمكن تعريف المقصود بفلسفة العلوم تعريفا محددا، و مع ذلك يبقى كل تفكير في العلم، أو في أي جانب من جوانبه، في مبادئه أو فروضه أو قوانينه، في نتائجه الفلسفية أو قيمته المنطقية و الأخلاقية، هو بشكل أو آخر" فلسفة العلوم ".
فما هي علاقة الإبستومولوجيا بهذه التحديدات؟
تتكامل الإبستومولوجيا مع الأبحاث المعرفية التي أشرنا إليها، على هذا النحو[8] :
ـ ترتبط الإبستومولوجيا بالميتودولوجيا من جهة تناولها لمناهج العلوم، ليس من الزاوية الوصفية التحليلية و حسب، بل و بالأخص، من زاوية نقدية وتركيبية أيضا.
ـ و ترتبط بنظرية المعرفة بمعناها العام من حيث إنها تدرس طرق اكتساب المعرفة و طبيعتها وحدودها، و لكن لا من زاوية التأمل الفلسفي المجرد، بل من زاوية فحص المعرفة العلمية و التفكير العلمي فحصا علميا ونقديا قوامه الاستقراء و الاستنتاج معا.
ـ و هي ترتبط بتاريخ العلوم من حيث إنها تدرس تاريخ العلم، و لكن لا لذاته، بل من زاوية كونه مسلسلا لنمو الفاعلية البشرية، الفكرية خاصة، التي هي عبارة عن تحقق إمكانيات الذات في فهم العالم وتغييره، و بالتالي تحقق إمكانيات وعي الذات بنفسها و قدراتها و حدودها.
ـ إنها إذن، فلسفة للعلم، تتلون بلون المرحلة التي يجتازها العلم في سياق تطوره، و تقدمه، و من هنا طابعه العلمي، و بكون الفلسفات التي تقوم خلال كل مرحلة، أو عقبها مباشرة. و بناء على ما سبق تكون الإبستومولوجيا والأبحاث الأخرى بمثابة حد واحد، و كل فصل بينها يبقى فصلا غير واضح كما هو الحال في التقليد الفرنسي (كونت، و باشلار، و كانغيلم...), و الأمر نفسه يلاحظ أيضا عند بعض الكتاب الأنكلوساكسونيين[9].
غير أن هذا التداخل لا يحول دون وجود بعض التعريفات التي تحاول أن تضع مياسم تحديدية واضحة للإبستومولوجيا كأن تجعلها تخصيصا للمعايير التي توصل إلى أشكال المعرفة[10]. أو فرعا من فروع الفلسفة يهتم بطبيعة و أهداف المعرفة، و بمسلماتها، و أسسها...[11] .و نجد من يعتبر الإبستمولوجيا فلسفة بشكل خالص لأنها تسائل العلم بواسطة مقولات فلسفية[12].و هي أيضا خطاب عقلاني عن المعرفة بالمعنى الذي تكون فيه المعرفة تقنية، في مقابل الرأي (L'opinion) أو الاعتقاد (Croyance)، و هي " نظرية المعرفة" أي طبيعة المعرفة الإنسانية و ميكانيزمها و مداها [13].كما نجد من يربط الابستمولوجيا بالمنطق» من حيث إنها كالمنطق تدرس شروط المعرفة الصحيحة. و لكنها تختلف عنه من حيث إن المنطق يعنى بصورة المعرفة فقط. في حين أنها تهتم بصورة المعرفة و مادتها معا، و بالأخص بالعلاقة القائمة بينهما«[14].
وعموما يمكن القول إن المتابعة الدقيقة للكتابات التي تروم حصر الممارسة الإبستيمولوجية و فهم آليات اشتغالها و حدودها- تكشف عن مرونة واضحة في حصر هذا المفهوم، و لذلك وجب التمييز في تلك الكتابات بين زاويتين مختلفتين :
1- زاوية تاريخية تكشف عن رؤية نوعية لهذه الممارسة انطلاقا من منظور إبستيمولوجي و ارتباطه بمدرسة معينة.
2- زاوية معرفية : تعكس مرونة المفهوم و صعوبة حصره في تعريف جامع مانع، و هي مرونة مستمدة من طبيعة الممارسة الإبستيمولوجية ارتباطها الجدلي بالمعرفة العلمية، و لا يهمنا من التحديدات السابقة التوصل إلى تحديد ما هوي، بقدر ما يهمنا الجانب العلائقي في التعريفات.
إن أهم المياسم التحديدية التي يتم التركيز عليها في تعريف الإبستومولوجيا :
أ- التمييز بين دراسة مناهج العلوم، باعتبارها دراسة وصفية، و بين الإبستومولوجيا من حيث إنها دراسة نقدية تدرس أسس و نتائج العلوم.
ب- التمييز بين الإبستومولوجيا من جهة و بين الميتودولوجيا و فلسفة العلوم، بمعناها العام، من جهة أخرى.
ج- الإبستومولوجيا دراسة نقدية موضوعها المعرفة العلمية من حيث فرضياتها، و مبادئها و نتائجها.
رابط البحث
رائع
ردحذف