النص الأدبي وإشكالية القراءة والتأويل
النص الأدبي وإشكالية القراءة والتأويل
محمد خرماش
ـ النص والنص الأدبي:
يعتبر نصا كل كلام متثبت أو يمكن تثبيته بالكتابة؛ فهو نسيج من الكلمات المُرتَّبة ترتيبا يهيئ معنى، وبما أنه يَتَبَنْيَنُ من خلال مجموعة من العلامات، فهو مثلها دال لا ينفك عنه، ومن ثم فهو ممارسة دلالية أو تدليلية. بمعنى أنه يقيم معنى ويؤسس مرجعية، أي يحيل على العالم الخارجي بما فيه من أشياء وأشخاص ووضعيات وما إلى ذلك. ونحن نتحدث عن المكتوب الذي يتم التعامل معه بما هو عليه فقط، لأن الشفوي قد تتحقق إرساليته بالأخذ والعطاء، ويساهم المتكلم في ذلك بمزيد من التحديد والتوضيح، أما المكتوب، فالعبء في فك شفرته وفهم إرساليته أي في تحقيق مرجعيته يقع كله على المستقبِل أي على القارئ، ومن ثم يتوجب تسجيل أمرين اثنين:
1 – يحتاج النص المكتوب إلى قارئ ومن ثم تنطرح مسألة القراءة بجميع أبعادها.
2 – تدخل في الاعتبار صياغة المقروء كذلك ونوعية المكتوب، وما هي الوظيفة التي هو مرصود لتأديتها، وهل كُتب بالكيفية التي تلائمها، وما هي الكيفية التي تلائم كل وظيفة من وظائف المكتوب ؟
إن الأمر قد يكون بسيطا أو قليل التعقيد في المجالات التي تستهدف توصيل المعلومات بأقرب السبل باستعمال كلام خطي مباشر يسهل إدراك مرجعياته، بمعنى أن القارئ أو حتى السامع يستطيع فوراً أن يقيم في ذهنه تصورا واضحا لما يحيل عليه، فتتحقق الإرسالية أي يتم الإبلاغ والتواصل ويستهلك النص المستعمل فينسى ويفنى. وهذا يعني أن إشكالية النص مرتبطة بإشكالية الخطاب أي بما يتهيأ من وضعيات لسانية تساعد على تحقيق القصد المبيَّت الذي يراد تسريبه من خلال البنيات المنشأة.
ـ النص الأدبي:
أما بالنسبة للنص الأدبي فالأمر مختلف كل الاختلاف، إذ يجوز له وربما ينبغي له أن يتصرف في اللغة تصرفا قد لا يجوز لغيره، فيستحدث من التركيبات والتلوينات التعبيرية ما يشغل به المتلقي عما قبله وعما بعده. إذ غالبا ما يتهيأ بكيفية ترميزية تجعل منه نصا منغلقا يحتاج إلى جهد ومعرفة ومهارة في التعامل معه؛ فهو لا ينضبط كسائر النصوص لقانون ( statut ) التكوينات اللغوية لكنه يقع مثلها أو أكثر منها في صميم إشكالية التعبير
[1]، بمعنى أن النموذج الأدبي هو نموذج لغوي أو لساني بالدرجة الأولى لكنه من التكثيف والتشويش بحيث يخرق منطق المعيارية السيمانطيقية فيشغل القارئ بذاته قبل أن يشغله برسالته؛ ومن المعلوم أن المنتظر من كل نص أن يقيم في الذهن تصورا واضحا لجامع الدال والمدلول على مستوى الإدراك وهو ما يسمى بالفهم أو إقامة المعنى، ولن يتأتى ذلك إلا بتحديد مرجعية خاصة أي بمعرفة حقيقة الأشياء أو الأمور المتحدَّث عنها، أي حقيقة ما وراء الكلام. وهي حقيقة قد تظل معلقة في النص الأدبي رغم إصرار علماء اللسان وعلماء الخطاب على أن القيمة المرجعية قيمة حاسمة في بناء النصوص قد تَبْهُتُ وقد تختفي لكنها لا تضمحل ولا يمكن الاستغناء عنها أبداً، وليس من شأن النص الأدبي أن يقدم مرجعياته على طبق من فضة، لكنه يقدم ما يساعد على اكتشافها أو الوصول إلى تحقيقها، ولذلك تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى مسائل كثيرة منها مسألة المعنى والمرجع ومسألة المعنى والسياق ( التوسعات الاصطلاحية ) ( التربية اللسانية A dam Schaff ) ومسألة قوانين إنتاج الخطاب ( تجاوز القدرات اللسانية والإجراءات السياقية إلى معرفة النظام السيميوطيقي الذي يحرك عملية التدليل Signifiance ) ومسألة التنصيص أو الأسلبة ( إقحام ما هو خارج ضمن ما هو داخل وبناء مرجعيات خاصة ) ومسألة التناص ( تدمير المرجعيات الأصل أو تعويمها ) ومسألة اللغة والفكر واللغة والواقع ( الواقع الفكري أو الواقع اللغوي ــ الكلام لا يحيل إلا على الكلام ) ( الواقعية النصية أو الواقعية الرمزية P h. Hamon ) وما إلى ذلك...[2]
ـ قراءة النص الأدبي وتأويله:
لا يمكن أن تواجه تلك المشاكل في النص الأدبي إلا بالقراءة، ولذلك أصبح من المقرر أن القارئ هو الذي يتمم إنجاز النص ويعطيه تحققه الفعلي. يقول ج سارتر: " إن الفعل الإبداعي لحظة غير مكتملة في العمل الأدبي، لأن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة كتلازم جدلي، وهذان الفعلان المرتبطان فاعلين مختلفين هما المؤلف والقارئ ".وهذا معناه أن القراءة عديلة الكتابة في إنتاج النص وتفعيله، بل إن القراءة أو القراءات يمكنها مع تعاقب الأزمنة وتراكم الثقافات أن تحقق المزيد في الإنتاجية النصية لأنها تُشرك معرفة القارئ أو القراء بمعرفة الكاتب فتخصب العمل بطريقة ديناميكية ومتجددة، ومن ثم فهي تتجاوز ما يجود به النص لتلاحق ما يندس بين ثناياه وعبر فضاءاته.
ومن ثم يتمثل دور القارئ في تنشيط الحوار الخلاق مع النص من أجل تطوير فن القراءة وفن الكتابة معا. والقارئ الإيجابي أو القارئ الفعَّال مشروط طبعا بشروط ثقافية ومعرفية تسمح له بتحريك آليات النص وتجاوز إكراهاته؛ ولذلك يقول(أمبرطو إيكو U. Eco ) مثلا: " أنا بحاجة إلى قارئ يكون قد مر بنفس التجارب التي مررت بها في القراءة تقريبا "[3].وهذا معناه أن القارئ صِنو الكاتب في معرفة دقائق المهنة وحقائقها، وعليه أن يفعل في التأويل مثلما فعل الكاتب في التكوين. وهكذا تُجمع النظريات الحديثة على احترام دور القارئ وتقدير أهمية القراءة في تنشيط النص وقدح زناده الإبداعي. وقد تمت الإشارة إلى أن النص الأدبي نص غير تداولي أو منزوع التداولية (Dépragmatisé ) ومن مهام القراءة أن تعيد إليه تداوليته (Répragmatisation )، وهذا عمل يبدأ كما يقول ( ريفاتير ) مع بداية المعالجة اللغوية والأسلوبية للمقروء ومحاولة تجاوز إكراهاته البنائية وفك سننه ومعرفة سياقاته بحل تناقضاته المتتالية [4].
وعلى القارئ الحصيف كذلك أن يتوقع بأن جل أو كل العناصر التي يمتصها النص، ستصبح ذات دلالة خاصة ضمن التشكيلة الجديدة، وهو ما أسميناه بعملية التنصيص، وبتشغيل ميكانيزمات القراءة المعروفة سيعيد النظر في قيمها السابقة كي يعطي النص بنية متساوقة ويقيم من خلاله أَوَدَ الوضعية التلفظية.
يتحدث ( ريكور P. Ricoeur ) في كتاب: " الاستعارة الحية Métaphore vive " عما يسميه " أفول المرجعية العادية " في النص الأدبي ( الاستعاري ) بسبب انعدام التلاؤم السيمانطيقي الذي يجعل المعنى في القراءة الحرفية يتحطم تلقائيا، وهذا التحطم الذاتي Auto destruction يشرُط تهافت المرجعية الأولية، وهو الأساس الذي تقوم عليه استراتيجية الخطاب الأدبي. وعلى القارئ أن يدرك بأن في ذلك تأسيسا لمعنى جديد سينبثق من خلال ذلك التعنيف الحاصل في المعنى الحرفي للكلمات وسيؤدي إلى إقامة تلاؤم سيمانطيقي جديد يستدعي بدوره منظورا مرجعيا جديدا، وهكذا تتضعَّف أو تتضاعف المرجعيات كلٌّ على أنقاض سابقتها، ولا سبيل إلى فهم حقيقي أو قراءة نافعة إلا بقبول هذه الديناميكية التي يمكنها أن تدعم خطوات القراءة خطوات التأويل.
وتجدر الإشارة إلى ما يمكن تقديمه من تبيين ميكانزمات القراءة عند أمثال بارت وريفاتير وإيكو وإيزر وياوس وغيرهم من الدارسين والمنظرين، حيث يرى رولان بارت في الومضات المثيرة للمعاني جاذبية مغرية تستدرج القارئ للوقوع في غواية رقص الكلمات الهاربة والاستمتاع بلذة النص وعذاباته، فتتفجر الهوية القرائية الآمنة ضمن هذا المنزع الإيروسي في " مخدع " النص وإشراكاته الآثمة. وحيث يتحدث ( ميكايل ريفاتير ) عن إمكانية اكتشاف الوقائع الأدبية المؤثرة في القارئ من خلال ردود الأفعال المتعاقبة تجاه الصدمات التي تجابهه بها الإكراهات اللغوية والأسلوبية، ومن ثم يتقدم تفاعله مع النص بقدر قدرته على استثمار إمكانياته والتعرف على استراتيجياته. أما ( أمبرطو إيكو ) فيرى أن فعل القراءة يقوم على أساس " تنشيط " النص بتشغيل " الكفاءة الموسوعية " ومراقبة أمكنة التعثرات الحدسية في القراءة الخطية، وبناء سلسلة المرجعيات الممكنة حسب شبكة العلاقات العاملية الموجِّهة لحدس القارئ وتخمينا ته في حركة دائبة بين معطيات الكتابة وإمكانيات القراءة. وأما ( هانس روبير ياوس ) الذي يعد زعيم القرائيين في مدرسة ( كونستانس ) فيستفيد من تيارات معرفية مختلفة في فهم عملية القراءة ويدافع عن الإنجاز المرتقب من خلال التفاعل الخلاق بين النص والقارئ بين ما هو قائم وما هو متوقع، وذلك بتقدير " المسافة الجمالية " بين عالم النص وعالم القراءة، أو بين عملية تحطيم أفق كائن وبناء أفق ممكن، من خلال تشغيل مفاهيم "الشعرية Poésis " و" الإدراكية Aisthésis " و" التطهيرية Catharsis " وما إلى ذلك...
ويوظف ( وولف كانك إيزر) أيضا مفاهيم قرائية مثل: «سجل النص» و« استراتيجيته » و« مواقع اللاتحديد» فيه و « بناء الإطار المرجعي » المشترك، وذلك من خلال القراءة التعاقبية أو الوعي المتتالي الذي تتم فيه عملية تجميع المعنى الكلي للنص ووضع أساس لفهمه «وتقبله».
وإذا من قاسم مشترك بين هذه التوجهات فهو على الأقل الاتفاق على احترام القارئ وتقدير دوره في إعادة بناء النص وفق معطياته الإبداعية أي الدخول فيما يسميه إيكو بالعالم الممكن الذي يتجسد وفق شبكة العلاقات العاملية فيه وهو ما يدعو إلى التمييز في نهاية الأمر بين طبيعة الشكل وطبيعة الإدراك، كما يقول إيزر فالشكل بنية منفتحة على السياق أو السياقات، لكن لحظة الإدراك تجعلها منغلقة على معنى بعينه يحدده القارئ الذي لابد أن يُرسي على معنى متماسك وقابل للإدراك والإقناع وهو صميم التأويل [5]. ذلك أن القراءة هي بمعنى ما إجراء تأويلي أو على الأقل هي السبيل الأمثل إليه.
وبالرجوع إلى مأثورات أرسطو الأولية فإن ( P. Ricoeur ) مثلا يعرف التأويل بأنه: " قول شيء عن شيء " بمعنى أن استعمال اللغة في حد ذاته تأويل لأنها تعبر عن حقيقة خارجية يتم إدراكها قبل التعبير عنها، وأن التأويل المتوِّج للقراءة هو في الحقيقة تأويل للتأويل. لكن الجدير بالذكر أن مفهوم التأويل قد أصبح من التعقيد والأشكال بحيث تصعب تحديده بتعريف يتضمن كل ما يشمله وكل ما يدل عليه في حقول التفكير الفلسفي والإبستيمولوجي، كما أنه أصبح ظاهرة تطورية حداثية في السياق الاجتماعي والسياسي والديني وما إلى ذلك.
وعلى العموم فالتأويل هو البحث المستمر عن أمثل شكل للفهم والاستيعاب، على اعتبار أن كل فهم يفتح طريقا إلى التساؤل وإلى تنشيط الفكر؛ ومن ثم القول بتجاوز منهجية العلوم الطبيعية القائلة بامتلاك الحقيقة كلها، ومراجعة مفهوم التسلسل المنطقي للوقائع الطبيعية واستبداله بمفهوم فهم الإنسان والكون أي بمفهوم تحديد العلامات والدلالات سواء على المستوى الطبيعي أو المستوى السلوكي بقصد الوصول إلى الإدراك الذكي أو العارف للقيم والمعلومات. ومن ثم ارتباط الفهم بالقدرة على التمثيلية والتمثُّلية وبتصور الآخر وقبوله بعيدا عن المعيارية الثابتة أو الموضوعية المتزمتة، وبالتمييز بين ثقافة الأرشيفات والوثائق وثقافة التفاهم والتبادل والتواصل والبحث الدائب عن الحقيقة.
وهكذا تتغذى نظرية التأويل بالظاهراتية القائلة بأن الإدراك يتم عن طريق تفاعل الذات بالموضوع ( القراءة مثلا ) وتجاوز معادلة الفصل بين الذات والموضوع التي رسختها المناهج العلموية. وعليه فالتأويل محكوم بعملية استطلاع الحقيقة السرية أو المعنى المختفي وراء الإشارات والتعبيرات المختلفة. وحينما نتحدث عن تأويل النص الأدبي فإننا نفترض أن معناه من الاتساع والعمق أو التعدد بحيث لا تكفي في إدراكه القراءة الواحدة أو حتى القراءات المتعددة إذ من الممكن أن يتخذ القارئ أو القراء دور اللاعب في مقابلة لا تنتهي بحيث يظلون منغمسين في الشبكة الداخلية للنص ومعلقين فهمه أو تحديد معناه ومرجعيته إلى ما لانهاية، لكن إحلال القدرة التأويلية للقارئ في القدرة التعبيرية للنص هو الذي يمكِّن من تحقيقه ضمن العالم الذي تحدده اللغة ويربطه بالعالم المتحرك وبالناس الذين هو منهم، وذلك عن طريق إيجاد الوصلات الخطابية والقيام بعملية المقاربة والفهم أي بالتأويل.
وعليه فإن الدور المفترض للمؤول هو إزالة الغبش وفتح طريق نحو النص بما يخدم بقية القراء أي بإنتاج فهم معين من خلال دلالات معينة يمكن تقاسمها مع الآخرين. وإذا كانت كل المناهج وكل الطرائق المتبعة في المقاربات النصية التي تميز بين العالم المتخيل والعالم المتحرك من ضمن شبكة التأويلات المختلفة، فإن المؤَوِّل مطالب على كل حال باحترام مقتضيات النص أي بدراسته في شكله وتشكُّله وباحترام مقتضيات الفهم أي بتتبع حركية المعنى ومحاولة الوقوف على الأرض الصلبة. ومن الممكن أن نذكر من المراحل التي يتبعها المؤول، مرحلة الوصف ومرحلة التفسير ومرحلة التأويل ومرحلة التقييم.
1 – الوصف أو التوصيف: هو تحديد مجموع المواصفات والشروط والعلاقات التي تؤسس النص أي تحديد المستوى السيمانطيقي ومعرفة الطبيعة النوعية للكتابة التي ينتمي إليها. وبما أن لغة الأدب قد تجعل العلامات منفصلة عن الأشياء ومنفتحة على الخيال فإنها تقدم إمكانية إيجاد أبنية جديدة تجعل النص في صورته الخاصة موجودا بالقوة فقط أو موجودا مع وقف التنفيذ. ولذلك ينبغي للمؤول في هذه المرحلة أن يستفيد من الدراسات اللغوية أو من الدراسات البنيوية ليفتح منفذا إلى الاضطراب الحاصل بين كيان النص وكينونته أو بين عالمه وحقيقته أو بين إشكالية الكتابة وإشكالية القراءة …على أن الوصف قد لا يكون موضوعيا أو تاما ومن ثم قد يكون موجِّها لعملية التأويل منذ البداية، وتلك إحدى المزالق التي يحف بها.
2 – التفسير: وهو محاولة إقامة تلاؤم سيمانطيقي جديد في النص لإزالة الغرابة واستعادة أو خلق الألفة المفقودة فيه، بمعنى التعرف على المقامات أو السياقات التي تفيد في فهمه أو تجعله ذا معنى يساعد على إنجاز المرجعية التي ظلت معلقة. ورغم أن الأثر يفيد بما يجعل منه آلية تمثُّل البنيات الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وبما ينم عن انشغالات القراء زمن إنشائه، وبما يحدد دوره ومنزلته ضمن سيرورة التاريخ وفي جدلية الفن والواقع، فإن السياقات الخارجية قد لا تفيد كثيرا في عملية التأويل، لأن القارئ أو الناقد المؤول ينظر إلى ملابسات الجانب التقني في بناء النص وليس إلى مُرْفَقَاته. فالنص الشعري مثلا يفسر في نطاق مستلزمات الشعر ومقومات النوع وليس فقط فيما قد يحتويه من أثر السياقات الخارجية وعليه فإن مشكلة التأويل تتجاوز ما يدعي النص أنه يقوله أو لا يقوله، وتعني بالأحرى تلك الكيفية التي يحدد بها السياق تأويل المقول. ومع ذلك أو لذلك فإن التفسير قد لا يزيل كل الغموض، وبالتالي قد لا يصل التأويل إلى المدى المطلوب.
3 – التأويل: يتتبع التأويل إذن وفق المراحل السابقة حركية المعنى في النص متجها إلى العالم ومستهدفا استخلاص الحقيقة من الفن أو معرفة الباطن من وراء الظاهر. فهو بسط للوسائط الممكنة بين الأدب أو غير الأدب والناس. وإذا كان الكاتب غائبا لحظة القراءة فهو محمول حسابه في التأويل، أي في فهمه من خلال فهم كتابته، وهو مصداق قولة ( ديلتي Dilthey ) مثلا: « إن الغاية النهائية للتأويل هي أن نفهم الكاتب أكثر مما فهم هو نفسه » [6].
4 – التقويم: وهو الحكم أو التقدير الذي يأتي في نهاية التأويل، ورغم أنه قد لا يكون صائبا أو شاملا إلا أنه يدفع إلى امتلاك المعنى العميق في النص برمته وتنزيله منزلته ضمن مراتب المعرفة العامة.
ـ انتقادات التأويل: وتبقى الإشارة إلى أن البعض يشكك في سيرورة العملية التأويلية وفي نتائجها على اعتبار أن التأويل ما هو إلا إعادة كتابة النص من قبل المؤوِّل، وأنه يخلو من وثوقية الإجراء العلمي ويتحلل من ثنائية الذات والموضوع التي تطبع تحصيل المعرفة الحقة، لكي يبقى ممارسة فنية تخضع للمهارات الشخصية، وليس ممارسة علمية تحليلية ممنهجة مثل السيميولوجيا مثلا التي تتبع سيرورة المنطق البنائي للنص وتستهدف التخلص من التأويل نهائيا لصالح ما يُسمى بالوصف الوظيفي في " علم الأدب ".
ـ استنتاج: يمكن القول بأن التأويل يتطور بتطور فعل القراءة ومهما تكن الإجراءات أو الخطوات التي يتبعها فهو يستهدف استخلاص المعنى الذي هو الخطوة الأولى نحو الفهم، وبناء المرجعية الذي هو الخطوة الأولى للتفسير والتراوح بين الفهم والتفسير هو الحركة الدائبة للتأويل في جميع الأوساط والمجالات.
وإذا كان من شأن المؤول في لحظة بعينها أو في موقف بعينه أن « يُسَيِّجَ » النص من أجل الوصول إلى معناه أو إلى معنى فيه، فإن من شأنه كذلك أن يتابع حركة انفتاحه وأن يجعل من الحوار النصي ومن الحوار حول النص جزءاً لا يتجزأ من الإبداع حاضرا واستقبالا.
تعليقات
إرسال تعليق