القائمة الرئيسية

الصفحات

النظرية التداولية: المفهوم والتصور



النظرية التداولية: المفهوم والتصور 
د. رضوان الرقبي
- الفرق بين الدلالة والتداولية:لقد ظل التفكير المنطقي في الغرب إلى عهد قريب كما يقول موريسMoris (ch) في مقالته "أسس نظرية علم العلامات" 1938، يفصل بين المعنى الدلالي والمعنى التداولي، ذلك أن هذا الفكر يعتقد أن العلاقة التمثيلية للجمل بواقع الأشياء الذي تعبر عنه، هي العلاقة الدلالية الحقيقية بامتياز، وهي علاقة متميزة ومستقلة عن العلاقة التداولية، التي تربط تلك الجمل بالمتلفظين بها.

وبقي التفكير المنطقي في الغرب أيضا، يعتقد انه بالإمكان الفصل بين البعدين الدلالي والتداولي، ودراستهما بشكل مستقل عن بعضهما البعض.

وقد حدد موريس Morisدور القواعد التداولية، بالمقارنة مع كل من القواعد التركيبية والدلالية كما يلي:

- إن دور القواعد التركيبية، هو تحديد العلاقات التي تربط بين بعض الدوال وبعضها الأخر داخل التركيب.

- أما دور القواعد الدلالية، فهو تحديد العلاقات التي تربط بين العلامات وعالم الأشياء التي تحيل عليها.

- إن دور القواعد التداولية هو أن تحدد لمستعملي العلامات، الشروط التي تمكنهم من الاستعمال الجيد لتلك العلامات.

وفي سنة 1946 قدم موريس Moris (ch) في كتابه "العلامات، اللغة والسلوك"، تعريفا للتداولية ظهرت عليه أثار النزعة الفلسفية السلوكية، مؤكدا بأن التداولية هي القسم من السميوطيقا الذي يبحث في أصل العلامات واستعمالها وأثارها السلوكي، أما علم الدلالة فيبحث في دلالة العلامات في كل مظاهرها الممكنة، بينما يعالج علم التركيب طرق التأليف بين العلامات دون الاهتمام بدلالتها الخاصة، أو بعلاقتها بالسلوك الذي تظهر من خلاله.

أما كارنابCARNABوهم من الفلاسفة الوضعيين الجدد، فقد عرف هو الأخر التداولية بالمقارنة مع كل من التركيب والدلالة، حيث أكد على أننا إذا اشرنا أثناء الدراسة إلى دور المتكلم أو بعبارة اشمل مستعمل اللغة، فإننا نكون في حقل التداولية، أما إذا اغفل الإشارة إلى دور المتكلم/ مستعمل اللغة، فإننا نكون في حقل الدلالة، أما إذا غضضنا الطرف عن عالم الأشياء ذاتها، فإننا نكون في حقل التركيب.

ويعرف موشليرMOUCHLER التداولية مقارنة مع التركيب والدلالة بأنها: دراسة معنى الملفوظات داخل سياقاتها الاستعمالية، إن موضوعها ليس هو وصف دلالة الجمل الذي هو من اختصاص الدلالة، بل هو وصف وظيفة الفعل اللغوي عندما يتحقق من خلال ملفوظ ما، وإذا كانت الجملة بالمفهوم النحوي تشكل الوحدة التحليلية الكبرى في علم التركيب، وإذا كانت القضية بالمفهوم المنطقي تشكل هي أيضا الوحدة التحليلية الدلالية الكبرى، فان الفعل اللغوي هو ما يشكل الوحدة التحليلية الصغرى بالنسبة للتداولية.

وإذا حاولنا نقل هذه التعاريف من المجال العام للسميوطيقا إلى المجال اللساني الخاص، أمكن أن نعرف أي لسان- باعتباره نسقا سميوطيقيا خاصا- بأنه نسق من الدوال اللسانية تساهم في تنظيمها ثلاث مجموعات من القواعد وهي:

- القواعد التركيبية

- القواعد الدلالية

- القواعد التداولية.

وهكذا فإذا كان دور علم الدلالة ينحصر في البحث في العلاقات التمثيلية القائمة بمقتضى الوضع والاصطلاح، بين العبارات اللغوية والأشياء، أو الأحداث الخارجية التي تمثلها تلك العبارات، فإن دور التداولية هو البحث في العلاقات التي تنشأ أثناء التخاطب بين مستعملي تلك العبارات، وذلك طبعا بعد أن تكون قد استوفت شروط الصحة النحوية والدلالية.

وهكذا ففي مقابل علم الدلالة الذي يتخذ من فكرة شروط الصدق الفكرة المحورية والأساس في دلالة الجمل، تقف المقاربة التداولية للغة بصفة عامة والأفعال اللغوية بصفة خاصة، لتحديد معنى كل فعل لغوي من خلال وظيفته التواصلية التداولية، وهي بذلك تعطي صورة عن المعنى القائم؛ ليس على الوظيفة التعينية أو التمثيلية للملفوظات، بل على الوظيفة التلفظية. وهي بذلك تؤكد على أن الفعل اللغوي هو فعل تلفظي، بمعنى شروط الاستعمال الجيد والناجح للأفعال اللغوية، وفي مقدمتها ملائمة هذه الأفعال لسياقها اللساني ومقامها التداولي، وهو ما عبرت عنه البلاغة العربية بمطابقة الكلام لمقتضى الحال.

وفي إطار مناقشة هذا التصور المنطقي للعلاقة بين المعنى الدلالي و المعنى التداولي، يمكن أن نقول بأنه على الرغم من أن موضوع التداولية هو دراسة استعمال اللغة داخل الخطاب، أي اللغة باعتبارها وقائع تلفظية محسوسة مُسيقة- أي داخل سياق ما- ، فإنها تهتم كما في علم الدلالة بعنصر المعنى.

وهكذا فمحاولتنا التعرف على دلالة الكثير من العناصر اللغوية، يُحيلنا في الواقع على استعمالها، فعندما نتلفظ بجملة خبرية، فإننا نحيل بها على واقع معين للأشياء التي نتحدث عنها، فواقع الأشياء هذا لا تعكسه أو لا تصوره البنية اللسانية للجملة بشكل تام وكامل، فلكي نحدد ما يتحدث عنه المتكلم، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار؛ ليس فقط الجملة التي ينطق بها؛ ولكن أيضا سياق التلفظ أو المقام التخاطبي.



1- نظرية أفعال الكلام:

تعد نظرية الأفعال اللغوية إحدى أهم النظريات الفلسفية اللغوية التي ظهرت في منتصف القرن العشرين في انجلترا، وهي وإن كانت اليوم تصنف ضمن موضوعات البحث اللساني الدلالي التداولي، فإن منشأها الأول على يد أوستن Austin، كان في أحضان الجدال والنقاش الفلسفي الذي ساد جامعة أكسفورد خلال الأربعينيات من القرن العشرين حول صلاحية اللغة العادية، باعتبارها أداة للتعبير عن القضايا الفلسفية والمنطقية، هذا النقاش الذي جاء كرد على متزعمي الدعوة إلى أطروحة اللغة المثالية[27] .

وهكذا جاءت نظرية أفعال الكلام لجون أوستنAustin، لتجسد موقفا مضادا للاتجاه السائد بين فلاسفة المنطق الوضعي؛ الذين دأبوا على تحليل معنى الجملة مجردة عن سياق خطابها اللغوي، إضافة إلى ما وصفه أوستن بالاستحواذ أو التسلط المنطقي؛ القائل بأن الجملة الخبرية هي الجملة المعيارية، وما عداها من أنماط مختلفة للجملة هي مجرد أشكال متفرعة عنها.

وانطلاقا من هذا اعترض أوستن Austin على توجه النزاعات الصورية التي لم تهتم إلا بالجمل الخبرية، ساعيا إلى رسم مسالك جديدة لتناول الظواهر التي استهدف البحث فيها. فاللغة ليست مجرد أداة للإخبار والوصف، بل وسيط لبناء الواقع والتأثير فيه وتحويله، وعليه فموضوع البحث يرتكز على ما نفعله بالتعابير التي نتلفظ بها[28].

ويميز أوستن Austin بين الاستخدام الاعتيادي للغة، وبين استخدام أخر يصفه بالتطفل، ويعني به التطفل على الاستخدام الاعتيادي للغة، ويمثل للاستعمال المتطفل بالكتابة الشعرية والروائية والمسرحية... وبذلك يكون قد فتح بابا واسعا وأفاقا جديدة أمام نظرية أفعال الكلام، التي " تذهب ضمن تصوراتها إلى القول بان الجمل اللغوية لا تنقل مضامين مجردة ونمطية، بل تختلف بحسب عوامل منها: الذات والسياق، بالإضافة إلى مقتضيات أخرى تسهم في تحديد دلالة اللفظ وقوته"[29].

يرى أوستنAustin أن الأقوال اللغوية تعكس نمطا اجتماعيا أكثر منها أقوالا يتعاورها مفهوما الصدق والكذب، التي نجدها عند الفلاسفة الذين درسوا المعنى في إطار ما عُرف بالمعنى القضوي للجملة الخبرية، وهي الجملة التي يمكننا الحكم عليها قضويا بالصدق أو الكذب، وقدم أوستن أمثلة يوضح فيها انه ليست كل الجمل جملا خبرية، وبين كيف أن اللغة يمكن أن تُستخدم لتنجز وعدا أو تصريحا... إلى غير ذلك من الأفعال التي يقترن القول فيها بانجاز الفعل.

وأكد أوستن على أننا حين نتلفظ بجملة ما، فإننا نقوم بثلاثة أفعال هي:

فعل التلـــفظ: ويقصد بذلك الأصوات التي يُخرجها المتكلم؛ والتي تمثل قولا ذا معنى، أي النطق بالألفاظ التي تتضمنها الجملة مع ما تحتويه من دلالة معينة.

فعل قوة التلفظ: ويقصد بذلك أن المتكلم حين يتلفظ بقول ما؛ فهو ينجز معنى قصديا، أو تأثيرا مقصودا، وهو ما أسماه أوستن بقوة الفعل، وقد اشترط أوستن لتحقق هذا المعنى الانجازي ضرورة توفر السياق العُرفي؛ لغة ومحيطا وأشخاصا... فعبارة مثل:

ـ سأحضر لرؤيتك غدا.

يعتمد معناها الانجازي الوعد هنا على مدى تحقق شروطها، بحيث يكون المتكلم قادرا على الإيفاء بوعده، وأن ينوي فعل ذلك، وأن يكون واثقا من أن المستمع يرغب في رؤيته، ذلك لان انتفاء رغبة المستمع في رؤية المتكلم، قد يحيل المعنى الانجازي هنا من وعد إلى وعيد.

فعل أثر التلفظ: ويعني بذلك أن الكلمات التي يُنتجها المتكلم في بنية نحوية؛ منتظمة مُحملة بمقاصد معينة في سياق محدد، تعمل على تبليغ رسالة وتُحدث أثرا عند المتلقي[30].

لقد ميز أوستن Austin بين نوعين من الأقوال: النوع الأول سماه بالأقوال الانجازية، والنوع الثاني سماه بالأقوال التقريرية، وكان الغرض من ذلك التميز هو التأكيد على أن كثير من الجمل والعبارات التي يشملها الحديث ليست خبرية، ولا تخضع لمفهوم الصدق والكذب، على أساس أن اللغة تشتمل على أسئلة وعبارات تعجب وأوامر...

وحتى لا يوصف فعل الكلام بالطائش أو غير الموفق، فإن أوستن حدد شروطا لا بد من احترامها لكي يكون الفعل ايجابيا وهي:

1- أن يكون هناك الطقس العُرفي مقبولا، وأن يكون له تأثيره العرفي أيضا، ثم أن يشتمل الطقس أو الأسلوب العرفي على التلفظ بكلمات محددة، من قبل أشخاص محددين في ظروف محددة.

2- أن يكون الأشخاص المحددون وكذلك الظروف مناسبة لتنفيذ الطقس العرفي المحدد.

3- أن يتم تنفيذ الطقس العرفي على نحو صحيح من قبل جميع المشاركين فيه.

4- أن ينفد الطقس كاملا.

وقد أضاف أوستن Austin إلى هذه الشروط شرطا أخر وهو شرط الصدق[31]، أي أن تتوفر للمشاركين المشاعر والأفكار والنوايا الأساسية، التي يقتضيها الطقس العرفي علاوة على دوام واستمرار تمسك المشاركين بالسلوك العرفي.

وبناء على ذلك فإذا انتفى تحقق الصدق في انجاز الفعل، فإنه يمكننا وصف الأمر هنا بسوء استخدام فعل الكلام. ومثال ذلك قولك: أراهن على فعل شيء، دون أن تنوي الفعل، أو قولك: أعدك بالوفاء بالأمر، في حين أنك عازم على عدم الإيفاء بوعدك.

لذلك أكد أوستن Austinعلى أن غياب الانضباط والاستقامة في القول والفعل قد يفضيان بنا إلى الوقوع في تناقضات تجعل الحوار يفقد سلامته ومصدقيته[32].

وقد توالت الدراسات والأبحاث حول هذه النظرية، سواء بالتجاوز للتصورات النظرية التي قامت عليها، أو بالتقويم والتطوير لهذه التصورات كما فعل سورل.

لقد عمل سورل Searle على تطوير نظرية أفعال الكلام لأوستن، دامجا بذلك تحليلات غرايس المتعلقة بمقاصد المتكلم، ودراسة المعنى التي عارض غرايس من خلالها المفهوم الشكلاني في نظرية الدلالة، القائل بأن المعنى العام المتعارف عليه للكلمة يحدد أيا من المعاني التي يمكن أن تستتبعها الكلمة في استخداماتها المختلفة، فغرايس Grice يرى أن معنى الكلمة يشتق من وراء قصد المتكلم للنطق بتلك الكلمة، فهو يؤكد على أن ما يعنيه متكلم بعلامة ما في مناسبة ما، قد ينحرف عن المعنى السياقي لتلك العلامة.[33]

إذا كان سورلSearle قد تابع البحث وتقويم وتطوير النتائج التي حصل عليها أوستن، وذلك بالاهتمام بالجانب اللغوي واللساني في تحليلاته، فإنه قد ركز بالأساس على أفعال الكلام غير المباشرة، مع تحديد شروط كفاية الفعل الكلامي لضمان الانجاز الموفق وهذه الشروط هي كالأتي:

* شرط مضمون القضية: وظيفته وصف مضمون الفعل، إذ يمكن أن يكون مجرد قضية بسيطة أو دالة قضوية أو فعلا للمتكلم أو فعلا لأحد المتخاطبين.

* الشروط التمهيــدية: تتعلق بما يعلمه المتكلم عن قدرات واعتقادات ومقاصد المستمع، بالإضافة إلى طبيعة العلاقات القائمة بينهما. وتقتضي توفر الشروط الأولية لتحقيق الفعل الكلامي المباشر، فلو تعلق الوضع مثلا بالأمر فمن الواجب أن يتمتع الآمر بسلطة تخول له إصدار الأمر، كما تقتضي أن يعلم الآمر أن المأمور قادر على انجاز ما أمِرَ به، كما يفترض أن يكون على بينة من أن المأمُور لن يقوم بذلك الفعل بدون أمر.

* شــروط الصــدق: تتحدد في الحالة النفسية التي يكون فيها المتكلم أثناء فعل الكلام، إذ يُطلب منه لحظة انجاز فعل الكلام أن يكون جادا وصادقا.

* الشروط الجوهـرية: تهتم بالأغراض التواصلية لفعل الكلام، التي تلزم المتكلم بواجبات معينة، إذ عليه أن يكون منسجما في سلوكياته مع ما يفرض عليه ذلك الفعل، فلو أخذنا الأمر فهو يعني وجوب أن يكون المتكلم الآمر قادرا ولديه رغبة، إذ لا يحاول القيام بفعل تكلمي متى علم مسبقا بأن مآله الإخفاق والفشل[34].

هذا وقد حاول سورلSearle أن يحصر أفعال الكلام في اللغة عبر تصنيفه لها في خمسة أنماط رئيسة:

1 أفعال تمثيلية: وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بصدق القضية المعبر عنها ومن أمثلتها أفعال التقرير والاستنتاج...

2 أفعال توجيهية: وهي الأفعال التي تمثل محاولات المتكلم لتوجيه المستمع للقيام بعمل ما، ومن أمثلتها أفعال الطلب والسؤال.

3 أفعال التزامية: وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بالنهوض بسلسلة من الأفعال المستقبلية، ومن أمثلتها أفعال العرض والوعد والوعيد.

4 أفعال تعبيرية: وهي الأفعال التي تعبر عن حالة نفسية المتكلم، ومن أمثلتها الشكر والاعتذار والترحيب والتهنئة.

5 أفعال إعلانية: وهي الأفعال التي تحدث تغيرات فورية في نمط الأحداث العرفية التي غالبا ما تعتمد على طقوس اجتماعية تتسم بالإطالة، ومن أمثلتها إعلان الحرب وطقوس الزواج[35]...

وقد أكد سورلSearle أيضا على وجود أفعال مباشرة وأخرى غير مباشرة، في إشارة منه إلى تفادي طبيعة التعابير اللغوية المتداخلة والمتبادلة؛ مُشيرا إلى أننا في السؤال التالي: هل يمكنك أن تفتح الباب؟. ننجز طلبا غير مباشر، والواقع أن العلاقة بين الطلب والسؤال قريبة.

تعتبر نظرية أفعال الكلام من بين أولى النظريات التي حاولت البحث في العلاقة بين الفعل والإيصال، إلا أنها واجهت نقدا واسعا خاصة لمعجمها الاصطلاحي، ولكونها أيضا قصرت تمييزها بين أفعال التلفظ الثلاثة على النتاج اللغوي فحسب، في حين أن مفهوم السياق العرفي وهو المفهوم المركزي لهذه النظرية، يقتضي اشتمالها لأنظمة التواصل والإشارات عامة؛ اللغوية منها وغير اللغوية.

لقد ظل مفهوم السياق العرفي مثار نقاش بين الدارسين، ولهذا السبب أكد أوستن بأنه من الصعب أن تحدد أين يبدأ العرف وأين ينتهي. كما وُجه النقد إلى هذه النظرية على أساس أن مؤسسيها انشغلا بالتقديم والعرض لنموذج أحادي في تناولهما لأفعال الإيصال، كما فعل سورلSearle مع فعل الوعد.

ويحبذ كثير من الدارسين المهتمين بهذه النظرية، أن تحرص في عرضها وتفسيرها للإيصال، على تبني مفهوم واسع يُحاكي المفهوم الشامل الذي طرحه فتجنشتاين Wittgenstein[36] 1953 وهو العاب اللغة، والذي يؤكد على أن معاني الكلمات فضفاضة تتحد مع استخداماتها المختلفة والخاصة بالعاب اللغة. ويرى كذلك بأن الاعتقاد بأن اللغة يمكن أن تأسر الواقع ضرب من الخداع والسحر.

كما انتقد اللساني ليتشLeitch [37] هذه النظرية معيبا عليها في الأساس خلطها بين الفعل الوظيفي وبين الفعل الانجازي، ثم ربط لاحقا في طرحه لمفهوم التأدب نوعين من الأفعال الانجازية التي صنفها سورلSearle، وهي الأفعال التوجيهية والأفعال الالتزامية بالأهداف التنافسية في مبدءا اللباقة، مشيرا إلى انه كلما كانت قوة القول غير مباشرة، كلما كانت أكثر تأدبا.

وعلى العموم فإن هذه النظرية ذات فائدة كبيرة، خاصة في تركيزها على مفهوم السياق والمحيط وعلاقات الأشخاص، وهو الأمر الذي حد من سلطة وأحادية التصور التلقيدي المرتكز على الجملة الخبرية في دراسة المعنى.

وتأسيسا على ما سبق فإن الفرضية الأساس التي قامت عليها نظرية أفعال اللغة، هي أن التكلم هو تبادل للأفكار، لكنه أيضا وفي ذات الوقت تحقيق لأفعال لغوية محكومة بقواعد دقيقة، وهذه الأفعال يمكن أن ينتج عنها تغيير في وضعية المتلقي أو تعديل في نسق معتقداته، وبالمقابل فإن فهم أي ملفوظ يعني القدرة على إدراك المحتوى التواصلي لذلك الملفوظ، بالإضافة إلى القصد التداولي الخاص الذي يهدف إليه المتكلم.

وينضاف إلى هذه الفرضية الأساس في نظرية الأفعال اللغوية، فرضية أخرى هي أن الوحدة الأساس في التحليل ليست هي الكلمة معزولة عن سياقها، ولا هي الجملة باعتبارها بناء نظريا صوريا، وإنما هي الملفوظ منظورا إليه داخل السياق اللساني ومقامه التداولي.



- الاستلزام الحواري وحدود قواعد غرايس:

1- 1 مبدأ التعاون:

إذا كانت الأبحاث التي قام بها كل من أوستن وسورل، قد انصبت في معظمها على الجانب المتعلق بأفعال الكلام المباشرة وغير المباشرة، فإن غرايس Griceمع اهتمامه بأفعال الكلام غير المباشرة كما وردت عند سورل؛ سيوجه جل أبحاثه صوب أصول الحوار[38].

ينطلق بول غرايس Griceمن تصور خاص للتواصل الشفهي، حيث يرى أن المتخاطبين يخضعون ويلتزمون أثناء ممارسة عملية التخاطب ببعض المبادئ العامة، ويهدف غرايس من وراء هذه المبادئ تحقيق ما يلي:

1- أن الجمل الخبرية لا تخضع كلها لشروط الصدق.

2- توضيح كيفية اشتغال آليات التأويل، التي تجعل المؤول ينتقل من الشكل اللغوي الحرفي إلى ما يتضمنه الملفوظ من معنى.

3- فحص الإطار النفسي- المنطقي الذي يقع فيه التبادل الكلامي[39].

يرى ويلسونDeirdre Wilson وسبربر Sperber أن النجاح الذي حققه تحليل غرايس يعود أساسا إلى مبدأ التعاون. فقبل ظهور أعمال غرايس كان تأويل الملفوظ يقوم على مبدأين:

1 معنى الجملة المتلفظ بها.

2 السياق.

وهما عاملان متغيران، لذلك أضاف غرايس Grice عاملا ثالثا ثابتا هو مبدأ التعاون، الذي يضم مجموعة من التعاليم الحوارية، يحترمها كل مسهم في عملية التواصل، ويؤكد غرايس أن الحوار لا تقوم له قائمة إلا إذا احترم المتخاطبان مبدأ أوليا وأساسا قائلا:" ليكن إسهامك في الحوار مطابقا لما يفرضه عليك هدف واتجاه التبادل الكلامي الذي التزمت به[40]."

ليس هناك حسب غرايس Grice أي تخاطب ممكن ما لم يخضع أحد المتخاطبين؛ ويفترض أن غيره خاضع لمبدأ التعاون، إذ لا يمكن لمبادلاتنا التواصلية أن تنحبس في مجرد متواليات شكلية مفككة، إنها إلى حد ما نتيجة مجهود تعاوني بين المتخاطبين، على أساس أن كل منخرط أو مشارك في العملية التواصلية، يؤمن أو يعتقد في مساهمته بهدف أو مجموعة أهداف مشتركة، أو يؤمن على الأقل بتوجيه مقبول لدى الكل المشارك، أن هذا الهدف أو هذا التوجيه يمكن أن يحدد مند البداية، أو يمكن أن يظهر على مجرى التخاطب، وقد يكون دقيق التحديد، أو يبقى عاما ليترك الحرية للمشاركين[41].

وعليه فإن تبادلاتنا التخاطبية، كما يحدد غرايس تكتسي بعض الخصائص المشتركة، على أرضها نتعاقد على التعاون، ثم إن تعاقدنا هنا يجب أن ينتهي على الأسلوب الذي تقرر عليه ما لم نتفق نحن على تغيره.

وبناء على ذلك فان الممارسة اللغوية عند غرايس، تقوم باعتبارها نشاطا إنسانيا على مبدأ التعاون بين الأطراف لتحقيق العملية التخاطبية التامة.

ومبدأ التعاون cooperative principle كما حدده غريس يمكن اختصاره فيما يلي:

* لتكن مساهمتك في التخاطب مطابقة لما يقتضيه الغرض منه حين تشارك فيه. أو بتعبير فرانسواز ارمينيكو:" قم بمساهمتك في التواصل بالطريقة التي يتخذه الهدف التواصلي المخوض في الفترة اللازمة"[42].

وبناء على هذا المبدأ العام صاغ غرايس قواعد فرعية متعلقة بمبدأ التعاون[43] وهي:

* قاعدة الكم: وهي متعلقة بكمية المعلومات التي يجب عرضها أو تقديمها وتترتب عنها القاعدتين:

- لِتكُن مُساهمتك في التخاطب حاملة ما يفي بحاجة مخاطبك.

- لا تجعل مساهمتك في التخاطب حاملة من الإفادة أكثر مما ينبغي.

* قاعدة الكيف: وترتبط بقاعدة مفادها؛ الصدق في التخاطب، لتكن مساهمتك في التخاطب صادقة، ومنها كذلك تتفرع قاعدتين:

- لا تقل ما تعتقد أنه كذب.

- لا تقل ما لا تملك إثبات صحته.

* قاعدة العلاقة: وتتعلق بقاعدة أساسية مفادها، لتكن مساهمتك في صُلْبِ موضوع التخاطب، بمعنى أن يُناسب القول ما هو مطلوب، أو بتعبير البلاغيين لكل مقام مقال.

* قاعدة الصيغة: وترتبط على عكس سابقاتها بكيفية القول، وتنبني على قاعدة أساسية هي: تحري الوضوح في العملية التخاطبية. وتتفرع إلى:

- اجتنب الغموض.

- اجتنب الالتباس.

- ليكن كلامك موجزا.

- ليكن كلامك مرتبا.

وغرايس حينما صاغ هذا المبدأ، وصاغ معه بعض القواعد، فإنه ترك المجال مفتوحا لكي تنضاف قواعد أخرى، كما أنه أشار إلى أن التخاطب يبقى مجرد حالة خاصة من حالات استعمال هذه القواعد، إذ يمكن التوسل بها لمعالجة نماذج التواصل الأخرى.قائلا: "إن هذه القواعد التخاطبية والاستلزامات المتصلة بها، اعتقد أنها تربطك بشكل خاص بالأهداف التي من أجلها يستعمل الكلام، إنني أعلن هذه القواعد على افتراض أن الهدف المتوخى يكون هو الفعالية القصوى لتبادل المعلومات، أن هذا التحديد بالطبع جد محصور، ويجب تعميم مخطط القواعد هذا بطريقة نستطيع معها مراعاة الأهداف العامة في استمالة توجيه الآخرين"[44].

ولما كانت هذه القواعد تضبط هذا التخاطب المثالي والصريح بين المتحاورين؛ باعتبارهما ملتزمين أبدا بمبدأ التعاون المنصوص عليه، فمتى بدا من أحدهما ظاهر الإخلال بهذه القاعدة أو تلك وجب على الأخر أن يصرف كلام محاوره إلى معنى حرفي خفي يقتضيه المقام. وهذا المعنى المصروف إليه يحصل بطريق الاستدلال من المعنى الظاهر ومن القرائن، وذلك بالذات ما عُبِّر عنه بالاستلزام التخاطبي[45].

وفي هذا الاتجاه قام غرايس Grice بمحاولة تقعيد التخاطب، على أساس تحديد المبادئ الرئيسة في عمليات التخاطب وأشكال التواصل عموما، وهذه المبادئ أسهمت في إغناء الدرس التواصلي، كما أسهمت إلى حد كبير في إبراز القيمة التداولية للكلام، كما عالجت إشكالات المقامات والسياقات التي كانت تقف حجرة عثرة أمام التحليل المنطقي التقليدي.

2- 1 كيف يتم احترام القواعد؟.

لنتأمل الحوار التالي:

(1) كم الساعة؟

(2) الساعة السادسة صباحا.

(3) سأذهب إلى الكلية.

يظهر أن(2) غير ملائمة للسياق الذي ولدته(3) لكن المخاطب الذي يسمع(3) يفترض أن المخاطب يحترم مبدأ التعاون، لأنه كان بإمكانه أن لا يجيب، وبالتالي يصمت، مما يعني احترامه لمبدأ العلاقة. بعد هذا الافتراض؛ على المخاطب البحث عن الأسباب الضمنية التي ستجعل (3) ملائمة مثلا:

(4) لا تُفتحُ أبوابُ الكلية إلا مع الساعة الثامنة صباحا.

والسبب الذي تتضمنه (4) راجع إلى المعرفة المشتركة بين المتخاطبين، وكذلك يمكن أن يرجع إلى أشياء أخرى تشكل افتراضات يقوم عليها تأويل المخاطَب للملفوظ.

إذا فعلى نظرية الاستلزام أن تكون قادرة على تفسير كيفية اختيار افتراضات دون أخرى، هذه الافتراضات التي ينتظر المخاطِب من المخاطَب اعتمادها، للوصول إلى فهم قصده وإتمام عملية التخاطب على أحسن وجه، لأنه لو" اختار افتراضا غير ملائم؛ لما تم التواصل بالشكل الذي يرغب فيه المتكلم. ويتم الكشف عن الاستلزام الحواري بتدخل العناصر التالية:‍

‍- المعنى التواضعي للكلمات المستعملة وهوية المسميات.

- مبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه.

- السياق اللغوي للملفوظ.

- كون العناصر ( أ - د) معروفة لدى المشاركين[46].

لقد قام غريس إثر ذلك بصياغة قاعدة تخاطبية تحدد كيفية الانتقال من الأفعال التكلمية المباشرة إلى الأفعال التكلمية غير المباشرة، على أساس علاقة عدم التناسب بين الملفوظ في دلالته المباشرة وبين المقام والسياق[47].

وهذه القواعد هي كالتالي:

- قال لي المخاطب الدلالة ( س).

- ليس هناك أي سبب يدعو لاعتقاد أن المخاطب لم يحترم المبادئ الحوارية.

- لن يفعل المخاطب ذلك إلا إذا كنتُ افترض أنه يقصد الدلالة (ق).

- يعرف المخاطب - ويعرف أنني أعرف أنه يعرف، أنه بإمكاني أن افترض أنه يقصد (ق) ولم يمنعني من ذلك، بمعنى أنه يوافقني على افتراضي، أو على الأقل لا يعترض على ذلك.

- إذن فهو ضمَّن الدلالة (ق) ضمن الدلالة (س)[48].

وقد حاول ديكرو أن يلخص هذه القاعدة، التي تبين طريقة اشتقاق الأفعال التكلمية غير المباشرة من الأفعال المباشرة، كما يلي:

- إذا قال المخاطب (ق) وكانت (ق) تستلزم (س) إذن فقد قال (س).

وعلى العموم فالاستلزام التخاطبي يمكن تحديده بأنه: "اقتضاء قول ما مدلول ثانيا تال لمدلول أول لا يكون هذا القول ملائما سياقيا إلا به، حيث يشكل المدلول الأول للقول مضافا إلى السياق وقواعد التخاطب الدال الأساس للمدلول المستلزم كما تبينه هذه الترسيمة[49] :

القول   مدلوله

البنية اللسانية = دال (1)

مدلول + السياق + قواعد التخاطب = دال (2)

المدلول (2)

ومن أهم الاستلزامات التي تتعلق بالقول الطبيعي، تلك التي تنشأ عن المقام الذي قيل فيه، أو عن السياق الذي جيء به من أجله والتي تتوسل بجملة من قواعد التخاطب التي يتبعها قائله، وقد يكون مقام الكلام خاصا يستدعي اعتبارات خارجية، لا يشاركه فيها غيره، أو يكون مقاما عاديا لا يتفرد بأسباب خارجية معينة[50].

قبل الإشارة إلى خصائص التضمين الحواري كما وضعها غرايس لا بد من تميز نوعين من التضمينات، التضمين الحواري الخاص، والتضمين الحواري العام، على أساس أن استعمال بعض الأشكال اللغوية هو الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى هذا التضمين أو ذاك.

1- الاستلزام التخاطبي المعمم: يستلزم القول(ب) استلزاما تخاطبيا سلميا القول(ج) عند نطق الناطق به، متى كان (ب) لا يختلف عن(ج) إلا في لفظ واحد يدل في (ب) على مقدار ينزل رتبة أدنى من الرتبة التي ينزلها مقدار اللفظ المقابل له في(ج)[51].

فقولنا: (1) حضر أحد الأساتذة.

(2) حضر كل الأساتذة.

فإننا نجد أن اللفظتين: "أحد" و" كل" تقعان في سلم، بحيث القول (2) يتضمن القول (1) في حين العكس غير صحيح.

2- الاستلزام التخاطبي المخصص: يستلزم القول(ب) استلزاما تخاطبيا القول(ج) في مقام خاص متى كان ادعاؤنا بأن قائله يتبع قواعد التخاطب في هذا المقام الخاص لا يصح إلا إذا سلمنا بأنه يقصد إفهامنا(ج).[52]

فإذا تأملنا المثال التالي:

(1) - هل فرغت من مطالعة الكتاب وسلمته إلى صاحبه؟.

(2) - لقد فرغت من مطالعته.

نلاحظ أن (2) تلقى من(1) سؤلا مركبا من سؤالين فرعيين، أحدهما هل فرغت من مطالعة الكتاب؟. ونرمز لهب (ب1) والثاني هل سلمته إلى صاحبه؟ ونرمز له ب(ب2) فيكون مطلوبا الإجابة عنهما. لكن (2) اختار أن يجيب على السؤال (ب1)، وهذا ما يجعل من(1) أن يفهم أن (2) لم يسلم الكتاب لصاحبه وبالتالي يكون القول (2) مستلزما للقول (3) لم أسلم الكتاب إلى صاحبه.

أما خصائص الاستلزام الحواري فيمكن تلخيصها فيما يلي:

أ : لكي نقول بوقوع استلزام حواري لا بد من افتراض، أن المتكلم قد احترم مبدأ التعاون على الأقل.

ب: يكفي أن تكون على بينة مما قيل، أو على معرفة بالمعنى التواضعي للملفوظ، بالإضافة إلى معلومات يقدمها السياق لتحديد التضمين الحواري الخاص.

ج: أن هدف الاستلزام الحواري لا علاقة له بصدق ما قيل، فيمكن أن يكون ما قيل صادقا؛ لكن ما هو متضمن كاذبا، لأن ما قيل ليس هو الذي ينتج التضمين، بل قول ما قيل أو الكيفية التي يعبر بها عنه.

ح: بما أن التأكيد من حضور التضمين رهين بالبحث عن ما يجب افتراضه، لكي نتمكن في الوقت نفسه من افتراض احترام مبدأ التعاون، وبما أنه يمكن أن تكون هناك تفسيرات متعددة، فإن التضمين الحواري في هاتين الحالتين سيعكس انفصال هذه التفسيرات التي إن بقيت بدون حصر، سيؤدي إلى أن يأخذ التضمين سمة اللاتحديد.[53]

وعلى العموم فإن الهدف الذي توخاه غرايس من خلال مبدأ التعاون وقواعده، هو إعطاء نظرة عن التواصل والطريقة المثلى المؤدية إلى إنجاحه، وبالتالي التنبيه على مظاهر المعنى التي لا تحكمها قواعد لغوية، بل يحكمها انجاز الملفوظ في سياق معين مبني على أساس احترام بعض المبادئ العامة للتواصل.

3- 1 نقـد مبدأ التعاون:

لا يخفى أن مبدأ التعاون التخاطبي قد فتح بابا واسعا في تطوير التداوليات اللغوية وتنويع الدراسات المتعلقة بموضوع التواصل[54]. ولكن رغم ذلك كان محط انتقادات وتعديلات وإضافات واختزالات، وكلها تهدف إلى تطوير هذا المبدأ العام؛ لكي يستجيب لمستجدات أخرى التي أبانتها علوم مختلفة.

وبتتبعنا لهذه الانتقادات الموجهة لهذا المبدأ سنخرج بملاحظة أساسية وهي:"أن أغلب الأبحاث التي همت هذا المجال، ذهبت إلى الإقرار بأن النموذج التخاطبي عند غرايس لم يأخذ بعين الاعتبار العديد من السلوكيات اليومية العادية؛ التي تتوفر على دلالة أكبر مما شكل حقل اهتماماته."[55]

ومن أهم الانتقادات الموجهة لمبدأ التعاون عند غرايس Grice كونه اقتصر على الجانب التبليغي، دون الأخذ بعين الاعتبار للجوانب الأخرى، مثل الجانب المادي والاجتماعي والتهذيبي، رغم أن غرايس قد أشار إلى هذه الجوانب بقوله: هناك جوانب شتى لقواعد أخرى جمالية واجتماعية وأخلاقية. إلا انه لم يُقم لها وزنا كبيرا، لذلك حاول مجموعة من الدارسين تناول هذه القواعد الأخرى التي أغفلها غرايس، إما تطويرا واغناء لمبدئه أو تجاوزا وتعويضا له، كما فعل ويلسونDeirdre Wilson وسبربر Sperber مؤكدين على أننا إذا ابتعدنا عن الحدس وأعملنا التحليل الدقيق، فإن كل هده المبادئ يمكن أن تختزل في مبدأ واحد هو مبدأ الملاءمة[56]. وفحوى هذه المسلمة* هو:

- يعمل المتكلم كل ما في وسعه لإنتاج ملفوظ ملائم.

ودور هذه المسلمة هو توجيه المستمع في جميع العمليات، التي يقوم بها أثناء تأويله للملفوظ، وتقوم هذه المسلمة مقام مبادئ غرايس.

وضمن عملية التقويم والتعديل نجد روبين لاكوف قد أضافت مبدأ التأدب ومفاده:

- لتكن مؤدبا.

وتتفرع عنه ثلاث قواعد:

- قاعدة التعفف: ومقتضاها:

* لا تفرض نفسك على المخاطَب.

- قاعدة التشكك: ومقتضاها:

* لتجعل المخاطَب يختار بنفسه.

- قاعدة التودد: ومقتضاها:

* لتظهر الود للمخاطَب.

غير أن عدد من الدارسين اعتبروا هذا المبدأ غير كاف، لأنه لم يستجمع جميع الشروط المطلوبة في العملية التخاطبية، رغم استحضارها لبعض الجوانب المهمة التي لم تظهر في طرح غرايس، وهكذا حاول كل من بنلوب براون وستيفن لفنسون، تدارك هذا النقص الوارد في مبدأ التأدب. وذلك باقتراح مبدأ أخر هو مبدأ التواجه؛ بمعنى مقابلة الوجه للوجه.

وضمن هذا المنظور ميزا بين وجهين:" وجه دافع أو قل سلبي، ووجه جالب أو قل ايجابي، أما الوجه الدافع فهو أن يريد المرء أن لا يعترض الغير سبيل أفعاله، أو قل هو إرادة دفع الاعتراض، وأما الوجه الجالب، فهو أن يريد المرء أن يعترف الغير بأفعاله، أو قل هو إرادة جلب الاعتراف، فتكون المخاطبة هي المجال الكلامي الذي يسعى فيه كل من المتكلم والمخاطَب إلى حفظ ماء وجهه بحفظ ماء وجه مخاطبه[57]." وفحوى هذا المبدأ هو:

- لتصن غيرك.



وتتفرع عنه خمس خطط تخاطبية، على المتكلم أن يختار منها ما يلائم قوله. وهي:

* أن يمتنع المتكلم عن إيراد القول المهدد.

* أن يصرح بالقول المهدد مع غير تعديل يخفف من جانبه التهديدي.

* أن يصرح بالقول المهدد، مع تعديل يدفع عن المستمع الإضرار بوجهه الدافع.

* أن يصرح بالقول المهدد، مع تعديل يدفع عن المستمع الإضرار بوجهه الجالب.

* أن يؤدي القول بطريقة التعريض، تاركا للمستمع أن يتخير أحد معانيه المحتملة.

إلا أن هذا هو أيضا لم يسلم من النقد، رغم تجاوزه لبعض الثغرات التي كانت في المبدأين السابقين، وهكذا استفادت بعض الدراسات من جوانب قصوره فبنت على أنقاضه تصورا جديدا، خصوصا وأنه كان يجعل من التهديد السمة الجوهرية للأقوال، ولذلك صاغ جوفري ليتش Leitch مبدأ أخر حدده في مبدأ التأدب الأقصى، والذي اعتبره مُكملا لمبدأ التعاون ويورده في صورتين الأولى ايجابية:

* أكثر من الكلام المؤدب.

والثانية سلبية:

* قلل من الكلام غير المؤدب.

وتتفرع على مبدأ التأدب الأقصى قواعد ذات صورتين ايجابية وسلبية:

- قاعدة اللباقة: وصورتها كالتالي:

* قلل من خسارة الغير.

* أكثر من ربح الغير.

- قاعدة السخاء: وتتفرع عنها:

* قلل من ربح الذات.

* أكثر من خسارة الذات.

- قاعدة الاستحسان: وتتفرع عنها:

* قلل من ذم الغير.

* أكثر من مدح الغير.

- قاعدة التواضع: وتتفرع عنها:

* قلل من مدح الذات.

* أكثر من ذم الذات.

- قاعدة الاتفاق: وتتفرع عنها:

* قلل من اختلاف الذات والغير.

* أكثر من اتفاق الذات والغير.

- قاعدة التعاطف: وصورتها:

* قلل من تنافر الذات والغير.

* أكثر من تعاطف الذات والغير.

ويرى ليتش Leitchأن هذه القواعد بمنزلة خطط، ترفع كل ما من شانه أن يوقع التنافر والنزاع أو يمنع التعاون بين المتخاطبين.

وفي مراجعته لهذه المبادئ، حاول الدكتور طه عبد الرحمن أن يكشف بعض الثغرات التي تشكو منها هذه المبادئ، مما دفع به إلى طلب مبدأ أخر يسد هذا النقص. وعلى هذا الأساس أضاف مبدأ أخر هو ما أسماه، بمبدأ التصديق الداعي إلى وجوب مطابقة القول للفعل، أو تصديق العمل للكلام، وقد صاغ هذا المبدأ على الشكل التالي:

- لا تقل لغيرك قولا لا يصدقه فعلك.

وينبني هذا المبدأ على عنصرين اثنين، أحدهما يتعلق بالجانب التبليغي الذي يتعلق بنقل القول، والجانب الثاني فهو الجانب التهذيبي، ويتعلق بتطبيق القول، ومن هذا المبدأ تتفرع عدة قواعد تهم اللفظ والقصد والصدق والإخلاص[58].
وعلى العموم فقد أسهمت هذه المبادئ في تعزيز العملية التخاطبية القائمة على أساسين: الأول تواصلي والأخر تعاملي.

د. رضوان الرقبـي- المغرب
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات