القائمة الرئيسية

الصفحات

نقد الشعر المعاصر بالمغرب رهان الهوية.. رهان التحديث



نقد الشعر المعاصر بالمغرب  رهان الهوية.. رهان التحديث
نقد الشعر المعاصر بالمغرب  رهان الهوية.. رهان التحديث
بنعيسى بوحمالة
إذا كانت العبقرية الأدبية الأندلسية، على ما بلغته من رقي وأصالة، أن صارت محل تبخيس وازدراء من لدن المشارقة وفقا لتلك القولة الجارية (بضاعتنا ردت إليها)، التي لهج بها الصاحب بن عباد إثر قراءته لكتاب العقد الفريد للأديب الأندلسي ابن عبد ربه، فأي موقف تقبلي يمكن أن نتخيله، من لدن مشرق مأسور إلى تمركزه الأدبي الضارب، لفائدة الأدب المغربي الذي لم يبلغ أبدا شأو نظيره الأندلسي؟

محكوما إذن بحسه الثقافي الاستعلائي سيظل المشرق مدافعا عن سبقه الإبداعي، معتبرا ما يمور من آداب في أطراف دار الإسلام الشاسعة مجرد تحققات ظلية لنواة أدبية صلبة تكمن إما في دمشق أو في بغداد، بل وحتى شبه الجزيرة العربية، التي هي مسقط رأس الأدب العربي، ستغدو، بعد انتقال الدولة العربية إلى الشام، فالعراق، محض طرف هامشي كبقية الأطراف الأخرى التي يكفي شعراؤها أن يحوزوا فضل تقليد أبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي…

على أن المأزق الهوياتي للأدب المغربي القديم لا يجد تفسيره ما عدا في عنصر الثنائي الجغرافي-الثقافي عن المركز المشرقي، أي في الرمزية الروحية والمسافاتية التي تنطق بها تسمية (المغرب الأقصى)، وإنما كذلك في سوء نصيبه التجاوري، في كونه سينشأ ويتبلور قريبا من أدب أندلسي رفيع سوف لن يتوانى، حتى في أحلك فترات الانحطاط السياسي بإسبانيا الإسلامية، عن احتواء وطمس أغلب الالتماعات الأدبية المغربية في تلك العهود. فبدلا من أن يتحول الجوار مع أدب أندلسي، لا حدود لديناميته التعبيرية والتخييلية، حدث أن أصبح عامل إعاقة وتثبيط للنشاطية الأدبية المغربية، وحيال مغرب إمبراطوري، قوي، ومشع، لم تكن الأندلس الآيلة إلى سقوطها التاريخي التراجيدي تملك سوى اقتدارها الأدبي النادر. وحتى عندما اضطر الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين إلى أسر الملك-الشاعر المعتمد بن عباد واقتياده إلى بادية مراكش، فإن باحثين مشارقة عديدين سيختزلون سلوكا سياسيا كهذا في كونه تجليا ساطعا لنزعة الثأر، الكامنة في اللاوعي الجمعي المغربي، من التفوق الأدبي الأندلسي على مغرب فقير أدبيا.



وبصرف النظر عن هذا التأويل فإن الموضوعية تقتضي منا التذكير بأن معظم الشعراء المغاربة، بدءا من القاضي عياض وانتهاء بمحمد الحلوي، لم يقووا على بناء شخصيتهم الشعرية الخالصة، بمعنى أن وضعهم الاعتباري في المجتمع كانت تصنعه آثارهم الدينية والكلامية والبلاغية.. التي غالبا ما كان الشعر يحتل ضمنها حيزا محصورا ليس إلا. نقصد أن الثقافة المغربية ستصر على إعطاء فقهاء-شعراء، أو متكلمين-شعراء، أو بلاغيين-شعراء.. مرجئة دائما تهييئ شعراء خلص، شاغلهم الأوحد صناعة اللغة الشعرية، وتدبير مستلزمات الخيال. و"بما أن هؤلاء المؤلفين كانوا يكتبون لجمهور من المؤمنين المتحدين في عقيدتهم، فقد كانوا يشعرون، في النهاية شعورا قويا أنهم في خدمة الدين وفي خدمة الدولة التي تمثله، ويكفي أن نورد هنا مثال القاضي عياض الذي يقدم لنا بآثاره وشخصيته أرفع صورة عن الأديب المغربي"


[1]. من المحقق أن هذه الثقافة سوف لن تعزف، مطلقا، عن إثمار قرائح شعرية جديرة بالاهتمام، وذلك في فترات متقطعة من التاريخ المغربي، كالجراوي، وابن حبوس، ومالك بن المرحل… سوى أن هذا لا يجيز لهذه الأسماء، مع ما لها من وزن، أن تحظى بنفس المكانة التي انتزعتها، عن استحقاق، أسماء مشرقية من عيار أبي تمام، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني.. ونالتها، على مرمى حجر من حاضرة سبتة، أسماء أندلسية من قبيل ابن هانئ، وابن زيدون، وابن الخطيب.

الهامشية الجغرافية، الظلية الثقافية، التحدي الأدبي الأندلسي أو لعنة المعتمد بن عباد، التحرج العقدي، كافة هذه الاعتبارات ستكرس، لا محالة، صورة أدب مغربي هامشي غير متضح الهوية وتلزمه أشواط زمنية عدة كيما يستجلب لقضية موجوديته قبول، أو على الأقل تعاطف، المحافل المشرقية المتحفظة عليه والتي استطاعت أن تستقطب إلى صفها قطاعا من الباحثين الغربيين في حقل الأندلسيات. وعلى الرغم من بعض علامات التنازل النقدي التي أبان عنها مشارقة، لا تنازع في قيمة آرائهم، كشكيب أرسلان وطه حسين، لصالح الأدب المغربي[2]، فإن مشاريع دراسية، تعريفية في غاياتها، تولى أمرها مثقفون مغاربة أنفسهم، سيكون صدورها عن مركب مهانة أدبية آن لها أن تزول عن جبين الثقافة المغربية، وأن تخلي المكان لسمعة أدبية بديلة تدعمها الشواهد والإثباتات.

في هذا النطاق يندرج مشروع محمد بن العباس القباج تاريخ الأدب العربي في المغرب الأقصى (1929)، بحيث في الوقت الذي كان فيه طه حسين، المشبع بفلسفة الشك الديكارتية، وبالمنظومة النظرية للمنهج التاريخي اللانسوني، قد انتهى لتوه من التشكيك في الجذر الجاهلي للشعرية العربية، مسفها بذلك أحد أركان الدولة العربية في مرحلة نهوض تاريخي ومجتمعي وفكري متدافع، من خلال كتابه في الشعر الجاهلي (1926)، سينصب انشغال القباج على توكيد حضور "أدب عربي" في قطر عانى أدبه من الإنكار، يوجد عند حافة دار الإسلام، من جهة الغرب، اسمه "المغرب الأقصى". أما في الوقت الذي كان قد أفسح فيه موت الشاعر التقليدي الكبير أحمد شوقي المجال أمام ثلة من الشعراء الرومنتيكيين الجريئين، في مصر ولبنان أساسا، لإرساء المقدمات التجديدية الحاسمة، على صواعد اللغة والإيقاع والموضوع والخيال، التي ستشكل نسغ المغامرة التحديثية التي خاضها السياب ومجايلوه عند نهاية الأربعينات، في عز الفورة الرومنتيكية، التي ستهتز معها سلطة النص الشعري الإتباعي، أي في إبان الثلاثينات، سينبري العلامة عبد الله كنون لكتابة مرافعته الدفاعية عن فرضية تحقق أدبي مغربي كفء في أساليبه ومضامينه. وفي هذا المنحى حري بنا أن ندخل في الحسبان إشارية عنوان مؤلفه النبوغ المغربي (1937)، إذ الإلحاح على صفة النبوغ يأخذ صبغة تصعيدية للنباهة الأدبية المغربية التي لا تقل في شيء عن النباهة الأدبية لمشرق جاهل للحقائق، أو متجاهل لها، مثلما الممهور بقلم شكيب أرسلان، مما يفيد بداية انجرار المشارقة إلى دائرة الأدب المغربي، واقترابهم من حقائقه، ومن إنجازات ممثليه. درءا، بالتالي، لفكرة البياض الأدبي بالمغرب، وتحاميا لتأبد الموقف المشرقي السلبي من القضية الأدبية المغربية، المناقض لانفتاح النخبة السياسية المشرقية على قضية المغرب الوطنية، "نحن نعتقد أننا بتقديم هذا الأثر الضئيل إلى الدوائر العلمية سنزيل الكثير من التوهم والتظنن في تاريخ المغرب الأدبي وسنرفع حجاب الخفاء عن جانب مهم من الحياة الفكرية لأهل هذا القطر، وسوف ينقضي تجني إخواننا من بحاث الشرق على آثارنا وتحاملهم على آدابنا لأن ذلك لم يكن منهم عن عمد وسوء قصد وإنما هو ارتياء واجتهاد"[3].

إن استحكام الهاجس التوكيدي للذات المغربية الإبداعية هو ما سيجعل هذين الكتابين التدشينيين أقرب إلى الأنطولوجيات منهما إلى الدراسات الأدبية بمفهومها المعياري، إذ الصدارة للتجميع والتوثيق والتدقيق، أما التحليل والاستخلاص فذلك شأن أجيال لاحقة من الباحثين سترعاها الجامعة المغربية والجامعات العربية المختلفة.

ومع هذا هل في مكنتنا الجزم بأن إشكال الوجود الأدبي المغربي من عدم وجوده قد تراجع، مع تلاحق المتغيرات التاريخية والثقافية، سواء في المشرق أو في المغرب، وانبلاج أوعاء نقدية، في المشرق العربي، مختلفة لا اعتراض لديها، ولو مبدئيا، على الهوية القومية للأدب العربي الناظمة لجماع الهويات القطرية، إلى الخلف لكي يتهيأ الحدب على طوابعه المائزة وفي ذات الحين على معضلاته الذاتية الكبرى؟

إننا لا نعتقد هذا، إذ سيستمر نفس المنطق الإلغائي موجها لأوساط القرار النقدي في المشرق القومي الذي لم تعد تخفى على نقاده أفكار النسبية، والخصوصية، والاختلاف، التي عممتها فلسفات التنوير والتحديث. وبينما لم يتقاعس النقد الفرنسي، حتى ضمن مذاهبه الأكثر شوفينية وانغلاقا، عن الاعتراف بآداب المستعمرات الفرنسية السابقة، والتعامل مع المارتينيكي إيمي سيزير، والسنغالي ليوبولد سيدار سنغور، واللبناني جورج شحادة، مثلا، تعاملا لا يفكر فيه البتة في نديتهم الشعرية حتى لعتاة الشعر الفرنسيين، من أمثال سان جون بيرس، وبول كلوديل، وأندري بروتون، سنجد النقد العربي الحديث مشيحا باهتمامه عن أصوات شعرية عميقة في المحيط العربي، سوى ما كان من استساغته، وإن عن مضض، جدوى الانتباه إلى الشاعر السوداني الرومنتيكي التيجاني يوسف بشير، وإلى صنوه التونسي أبي القاسم الشابي، في حين سيلزم داعي التضامن السياسي والأخلاقي، مع حرب التحرير الجزائرية، الاحتفاء الشعري العربي اللامشروط برمزية جميلة بوحيرد، والنقدي بشاعر نيو-كلاسيكي من حجم مفدي زكريا، أما باقي أحياز الوطن العربي، ومنها المغرب، فلا مانع من أن تبقى في خانة المؤجل النقدي.

من هنا تأتي أهمية الخدمة العلمية التي سيسديها البحث الجامعي لقضية الأدب المغربي التي ما انفكت قائمة. فعلى يد باحثين أنجبتهم جامعات مشرقية، كعباس الجراري وإبراهيم السولامي، أو الجامعة المغربية، كأحمد الطريسي، ستأخذ في التبلور استراتيجية جديدة لتناول الأدب المغربي، بمقتضاها سينضاف، من الآن فصاعدا، شاغل البحث في شعرية الشعر المغربي إلى شاغل الموجودية الذي يحضر، بكيفية أو بأخرى، في صميم هذه الاستراتيجية. هكذا وفي قلب الجامعة المصرية، إحدى القلاع العلمية المنيعة، سيحرص الجراري، من خلال عمله الأكاديمي القصيدة على إبلاغ المشارقة أن المغرب لم ينتج أدبا فصيحا وكفى، وإنما يحسب له أيضا امتلاك مبدعيه لناصية التعبير الشعري الشعبي الرائق، الذي تجسده ألوان من القصائد الزجلية. أما السولامي فلن يقنع في رسالته الشعر الوطني في عهد الحماية 1912-1956، بالانحياز إلى موجودية شعر مغربي حديث، بل وسيسعى إلى الإلحاح، من داخل الحرم الجامعي للجزائر العاصمة، على كفاءة هذا الشعر، من مختلف الأوجه، على التأريخ لهوية شعب لم تنل منه حرب الإبادة الاستعمارية. وبالموازاة من هذين الباحثين بالمغرب. سيصمم الطريسي، في أطروحته الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث، التي دافع عنها في جامعة الرباط، على مقاربة شعرية المتن الذي اصطفاه من خلال حدين مفهوميين إجرائيين، هما "الرؤية" و"الفن"، قاصدا عبر هذه المزاوجة إلى إبراز أهلية الشعر المغربي الحديث، تماما كقرينه المشرقي، لإفراز رؤيويته وإبداعيته وذلك في تعاضد كامل. قد نحيل دراسة الجراري والسولامي على الأطر النظرية والإجرائية العامة للانسيونية، ودراسة الطريسي يمكن ردها إلى اتجاه التحليل النصي، غير أن ما يوحد ثلاثتها هو اشتراكها الضمني في زحزحة الوضعية الدراسية المأزومة التي أريد للشعر المغربي خاصة أن يبقى مشدودا إليها.

ولربما جاز القول بأن كافة التداعيات المأزقية للشعر المغربي ستعرف كثافتها القوية تزامنا مع ميلاد القصيدة الحرة المغربية، انطلاقا من أواخر العقد الخمسيني، وفي هذا السياق سيكون مجديا أن نستكنه الدلالة الأكاديمية، والسيكولوجية كذلك، لدراسة الشاعر أحمد المجاطي التي تحمل عنوان أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، فهذا البحث الجامعي الذي دافع عنه صاحبه في جامعة الرباط، يلوح، إذا ما تجاوزنا مراميه العلمية المسطرة، نوعا من تصفية حساب تاريخي وثقافي، قاسية، مع الحداثة الشعرية العربية، وبالتالي مع مشرق مطمئن، كعادته، إلى كشوفاته الإبداعية، تصفية حساب يمارسها شاعر، قبل أن يكون باحثا، يعد رأس الرمح في المشروع الشعري التحديثي الذي باشرته جماعة من الشعراء الممسوسين بحمى التجديد والتطوير الإبداعيين، وذلك بعد أن كان الرواد، العراقيون تحديدا، قد طووا عقدا ونيف في تطويع النموذج الإيقاعي التفعيلي. فالحداثة الشعرية، باعتبارها نتاجا مشرقيا، ستصبح على يد الشاعر مجرد عثرات ومزالق وأوهام، بل وترديات قاتلة، يستفاد منها، في المحصلة، فشل المركزية الشعرية العربية في بناء نص حداثي لا مراء في جدارته الإبداعية. لكن حين نظرنا إلى المسألة من منظور إبيستمولوجي بحت، فلن نتوانى، انسجاما مع ماهية التقدم، عن أخذ ما قد يظهر كاختلافات وانتكاسات في المسار التحديثي للقصيدة العربية، مأخذ أعراض طبيعية، بل ومستوجبة، في الظواهر الإبداعية رهن النمو.

إن ما ذهب إليه الشاعر من أزموية الحداثة الشعرية العربية إن هو، في الجوهر، إلا محاولة منه، كمعني، للابتعاد عن الأزمة الحقيقية المتراكبة، أزمة التحديث الشعري.. أزمة ثقافة.. أزمة تاريخ مغربي بطيئة انتقالاته، تاريخ تترصده إعاقات شتى تندر معها انفراجاته الممكنة[4]. ففي اللحظة التي اقتحمت فيها القصيدة الستينية بالمشرق آفاقا تجريبية على جانب من الشسوع والخصوبة كانت القصيدة الحرة بالمغرب لا تزال قيد التخلق، تتلمس إمكان تواجدها في مناخ تسوده سلطة التقليد الشعري، ممثلا في شعراء كعبد المالك البلغيثي، ومحمد المكي الناصري، والمختار السوسي، ومحمد القري، وعلال الفاسي… ومن ثم فإن جيل الخمسينات الذي كان منتظرا، من حيث المبدأ، تكفله بخطوة الريادة الشعرية لنموذج القصيدة الحرة في الأدب المغربي الحديث، وذلك على غرار الأجيال الخمسينية في مصر ولبنان وفلسطين والسودان.. وسيلفي نفسه، بضغط من ثقافة غير منفتحة على التجديد، راضيا بمكتسب القصيدة الرومنتيكية وقنوعا بمشترطاتها الأدائية الميسرة، وهذا ما يصدق على كل من عبد الكريم بن ثابت، وعبد القادر حسن، ومصطفى المعداوي، وعبد المجيد بن جلون، وإدريس الجائي…

فعند نهاية الأربعينات، كما أومأنا قبل حين، انطلقت على يد نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، حركة تجديدية، مصيرية في تاريخ الشعري العربي، انضوى إلى صفها، فيما بعد، شعراء عراقيون كسعدي يوسف، وكاظم جواد، وموسى النقدي.. وعرب كخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور، وصلاح عبد الصبور، ومحمد الفيتوري،وأدونيس.. حركة اقتدرت، رغم ما شاب بداياتها من تشوش تصوري وتهيب إبداعي، على إحداث شرخ غائر في بنية القصيدة العربية، سيان على صعيد تشييد الجملة الشعرية أو من حيث اجتراح تيمات شعرية عميقة، أو فيما يتعلق باستشراف خيالات ورؤيات لا حدود لامتدادها. وبخصوص المغرب بالذات فإن التجليات الأولى لهذه الحركة التجديدية، العربية الكاسحة، سوف لن تنفرز إلا عبر نصوص ما اصطلح عليه بجيل الستينات، بما هو ضمنيا، جيل الريادة في هذا الباب، جيل أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني، وعبد الكريم الطبال، ومحمد الميموني، وعبد الرفيع جواهري، وأحمد الجوماري، ومحمد علي الهواري، وأحمد صبري، وبنسالم الدمناتي..

والواقع أن العقد الستيني بقدر ما يجسد الذروة التصعيدية لمأزقية الهوية الشعرية المغربية فهو يمثل، بالموازاة من ذلك، مفرقا دقيقا في سيرورة تاريخنا الشعري برمته، ومع هذا فلا أحد من نقاد تلك الفترة، أو شعرائها، رأيناه يزمع على مساءلة التجربة الشعرية الستينية والتفكير في جوهرها التأسيسي، وفي ما تركته من آثار شملت العقود والأجيال الموالية. وعلى ذكر الشعراء فإن ثلاثة شعراء ستينيين، يجمع الكل على وزنهم الإبداعي الضارب، هم أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني، كان متاحا لهم، من موقعهم الجامعي، أن ينجزوا هذه المهمة، إلا أنهم فضلوا العمل على مشاريع أكاديمية أخرى متنازلين بهذا عن تناول تجربة جيلهم الشعرية لصالح أبنائهم الشعريين المحتملين، وهو ما سيتأتى، فعلا، خلال السبعينات.

الوفاء لأحقية الهوية الشعرية المغربية المعاصرة، لكن مع عدم التراخي عن تمحيص مشخصاتها الأدائية والتعبيرية والرؤياوية، أو لنقل المواءمة بين معتنق الموجودية الشعرية المغربية المعاصرة وبين أخلاقية الترصد العلمي لهذه الموجودية، كانت تلك هي الخلفية التي وجهت شاعرا سبعينيا، هو محمد بنيس، معنيا بالحداثة الشعرية المغربية، لكنه معني قبل كل شيء بالموروث الشعري الذي تحدر إلى جيله من آبائه الشعريين الروحيين، إلى إنجاز دراسته الأكاديمية ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، وقد "استهدفنا في هذا البحث القيام بمحاولة لقراءة المتن الشعري المغربي المعاصر، وهي بالنسبة لنا بمثابة مجهود ينطلق أساسا من ضرورة ممارسة قراءة نقدية، لا تنبهر بهذه الظاهرة ولا تستخف بعطائها، وهي بذلك غير بريئة، ولا كاملة. إنها مرتكزة على اختيار منهجي، قوامه اعتبار الظاهرة الشعرية المعاصرة بالمغرب، وغيرها من الظواهر الأدبية، نتاجا لغويا متميزا، له قوانينه الخاصة، وجدت في ظروف تاريخية واجتماعية محددة"[5].

مستندا إذن إلى الجهاز المفاهيمي للبنيوية التكوينية، ومعتمدا على فكرة البنية الدالة، المستوعبة نصيا والمؤطرة تاريخيا ومجتمعيا وثقافيا، سينتهي الشاعر-الباحث إلى تسطير ما ارتآه حدودا خمسة للمجال الشعري المسيج لتجربة المعاصرة وهي: 1) الظهور المتأخر بالمغرب، 2) حركة أفراد وليست حركة مدرسة، 3) الضعف في الكم، 4) وضعية النقد، 5) بين اليمين واليسار. منافحا، في غضون هذا التوصيف، عما اعتبره بنية للسقوط والانتظار، مؤداها أن شعراء العقد الستيني لم يكن مخولا لهم سوى تدريج وعي ثبوتي لأنهم كانوا جزءا لا يتجزأ من برجوازية صغرى أحبطت آمالها التاريخية العريضة جراء خيبات عهد الاستقلال.

أن يحصل إنجاز هذه الدراسة في كنف جامعة الرباط، ووفقا لمستلزمات البحث الأكاديمي، فمعنى ذلك أن المؤسسة الجامعية في المغرب، بالرغم من حداثة عهدها مقارنة مع نظيراتها المصرية والسورية والعراقية مثلا، قد جعلت البحث في الشعر المغربي المعاصر ضمن برامجها العلمية، عامدة بهذا الانفتاح إلى الإسهام، من جهتها، في نطاق أوفاقها الصارمة، في النقاش النشط الذي كانت تمور به الساحة الثقافية بالمغرب، المنصب حول الشعر المغربي المعاصر، إن عبر الندوات التي أقامتها جمعيات ثقافية جادة كاتحاد كتاب المغرب، أو من خلال ما كانت تنشره الصحف والمجلات من مقالات تعالج جوانب من هذا الشعر، انطلاقا من نصوص لشعراء مؤتلفين أو مختلفين أو توسطا بتجارب شعرية منفردة. أكيد أنه لا يمكن القفز على الأدوار الإيجابية التي أدتها، في هذا الصدد، صحف وطنية مثل العلم والمحرر، ومجلات مثل آفاق والأقلام والثقافة الجديدة، ومما لا شك فيه أن توسل محمد بنيس بهذا المنبر الأخير، متعاونا مع الشاعر عبد الله راجع، في مطارحة جملة من القضايا المركزية في الشعرية المغربية المعاصرة، إن كان يدل على شيء فهو يدل على تضافر رغبتين متكاملتين، أولاهما علمية مقيدة منفذها المؤسسة الجامعية، أما الثانية فثقافية متحررة فسحتها الوسائط الإعلامية. وعلى هذا النحو، وفي انصياع واع للإلزامات الثقافية والأخلاقية التي تستوجبها هذه المطارحة، سيتوازى، عبر أعداد المجلة، الاحتفاء بأسماء أدبية وفكرية مغربية، مع نشر مختارات لها، كأحمد النميشي، ومحمد داود، ومحمد بن العباس القباج، ومحمد بلحسن الوزاني، مع الدعوة الملحة إلى استكشاف رحابات ممكنة للتحديث الشعري بالمغرب، ويعتبر "بيان الكتابة"، (المنشور في العدد التاسع عشر، لعام 1981)، الوثيقة الأكثر تجلية لهذه الدعوة، مما يذكر بذات الموقف النقدي الطليعي الذي اتخذه الشاعر الروسي ماياكوفسكي وزملاؤه المستقبليون، خليبنيكوف وبورليوك وكروتشينيخ، في بيان "صفحة في وجه الذوق العام" 1912، من الإرث الشعري الروسي، كما يستحث روح الانعطافة الحداثية البليغة في وعي أدونيس الشعري، من أفق القصيدة الجديدة إلى أفق الكتابة، على غرار ما هو وارد في العدد الخامس عشر من مجلة مواقف، لعام 1971.

ولأنه معني بالشعر المغربي المعاصر كمجايله محمد بنيس، وفي حمأة النقاش الثقافي حول هذا الشعر، الذي كانت المجلة طرفا فيه، ولكونه أيضا باحثا جامعيا، سيقر عزم عبد الله راجع على تدبر المنجز الشعري لجيله، أي الاشتغال على فترة تالية للفترة التي اقتطعها بنيس لدراسته، مع السعي إلى ضبط منسوبها التجاوزي المحتمل، قياسا إلى سابقتها، وبالتالي محاولة صياغة درجة مؤشر الانتقال الشعري من مدار التأسيس إلى مدار التجريب، ذلك أن "رغبتي في الواقع إنما تعود إلى حضور متن شعري لم تواكبه دراسة نقدية تحليلية تشذب منه وتغذيه. فدراسة الصديق محمد بنيس ركزت على أغلب الأسماءالتي كان لها حضورها القوي في الساحة الشعرية خلال مرحلة الستينات وبداية السبعينات، وكان لدي إحساس قوي بأن الأسماء التي ظهرت بعد هذه الفترة يملك الكثير منها نكهة متميزة ومذاقا مغايرا لما كان سائدا في الستينات، فكان لزاما علي ألا أغض الطرف عن هذا الحضور القوي والمتميز لمتن شعري ينبغي فحصه والتمعن فيه"[6].

هكذا، وارتكازا على متن شعري يضم نصوصا لشعراء منهم محمد بنيس، وأحمد بلبداوي، ومحمد بنطلحة، وعلال الحجام، ومحمد الأشعري، وأحمد بنميمون… علاوة على نصوصه هو الآخر، ستفضي به مقاربته البنيوية التكوينية، المرفقة بهاجس تحليلي نفساني بين، إلى ضبط معالم بنية مستحكمة في هذا المتن سيعمدها ببنية الشهادة والاستشهاد: شهادة جيل بأتمه على اقترافات واقع مدمر، والاستشهاد البروميتيوسي، ذي الرمزية القربانية الساطعة، لشعرائه الذين لم يخشوا مغالبة قوى أولمب أرضي طاغ لكي يحوز الإنسان نصيبه المسلوب من المعرفة والكرامة والمواطنة الحقة. وإذا ما أضفنا إلى دراستي محمد بنيس وعبد الله راجع دراسة شاعر ثالث من جيلهما هو محمد بنطلحة[7]، استقام أمامنا ملمح دال في الفعالية الدراسية التي غطت فترات أو ظواهر في الشعر المغربي المعاصر، ونقصد به انوجاد شعراء مغاربة من جيل السبعينات أساسا، منجرين، بقوة الأشياء، إلى التعريف، إن أكاديميا أو نقديا، بالجهد الشعري التحديثي في المغرب، وإبراز قسماته وتحولاته، مستعيدين بذلك نفس المسلك التعريفي الذي لجأ إليه شعراء مشارقة معينين، في إبان تمخض القصيدة الحرة، على شاكلة ما فعلت نازك الملائكة في مقدمتها لديوانها الثاني شظايا ورماد، وفي كتابها النقدي قضايا الشعر المعاصر، والسياب في مقدمة ديوانه الثاني أساطير، أو عند بدايات قصيدة النثر، نظير ما صدر به أنسي الحاج ديوانه الأول لـن.

لكن إذا كان مسلك المشارقة في هذا الباب ناتجا عن رغبة في تحسيس مجال شعري عربي، ما انفكت الكلمة الأولى فيه للتقليد، بأهمية التجديد الشعري، وذلك في مواجهة فراغ تنظيري ونقدي يكاد يكون مطبقا لولا تعاطف بعض النقاد العرب كإحسان عباس، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد النويهي… فإن مسلك المغاربة يتماثل، زيادة على الدواعي التعريفية الكامنة خلف الظاهر الأكاديمي، صنفا من فاعلية حوارية مع نقود أخرى، انصبت هي بدورها عل الشعر المغربي المعاصر، كانت تسري سريانا متنفذا في الوسط الثقافي، مندغمة في الحمأة الإيديولوجية التي رانت على هذا الوسط خلال السبعينات والثمانينات ومتمكنة، من غير ما احتراز، من تمرير أحكام أو، بالأولى، تطلبات التزامية من الشعراء تؤول إلى العقيدة الجدانوفية. من ذلك، على سبيل التمثيل، الرأي القائل بأن "معالجة الشعر المغربي المعاصر، سواء باعتباره حركة تنمو وتتطور داخل تخوم (جيوبوليتيكية) جغرافية، سياسية، أو جزءا من حركة عربية أوسع، تنطوي على كثير من الاعتساف والتمحل إذا ما تغاضت عن الفوارق الأساسية التي تميز، داخل الحركة الواحدة، مختلف الاتجاهات، وهي فوارق تستمد نسغها ومبررها من الأسس الطبقية والانتماءات الإيديولوجية للمبدعين"[8]. وتماهيا مع هذه التطلبات سيتعامل إدريس الناقوري مع المكون الجمالي في نصوص المجاطي، والطبال، وشعراء آخرين، في ظل الوازع الإيديولوجي الدوغمائي الذي صدرت عنه مجمل دراساته آنذاك، الشيء ينطبق أيضا على دراسات نجيب العوفي التي احتواها كتابه درجة الوعي في الكتابة. لذا لم يجد عبد الله راجع أيما غضاضة في تحديد موقفه من الخلاصات النقدية التي انتهى إليها هذا الكتاب، "ولا سيما الجزء الخاص منه بقصائد الشعراء الشباب، فرغم النية الصادقة التي صدر عنها صاحب الكتاب فإن الكثير من استنتاجاته تظل في حاجة كبيرة إلى نقاش، بل وإلى مراجعة في الكثير من الأحيان"[9].

وعليه ففي مقابل عدة نقدية قوامها تحليلات لينين، وبليخانوف، وفيشر للوظيفة الإبداعية، يتأسس عليها منظور الناقوري والعوفي إلى القصيدة المغربية المعاصرة، يقترح كل من بنيس وراجع ثنائية الفهم والتفسير، الغولدمانية، مع الاستئناس ببعض الدراسات اللسانية والأسلوبية والسيميوطيقية، وذلك ابتغاء اقتراب أفضل من معادلة النصي-التاريخي في نسيجها.

وكأي عمل أكاديمي أو نقدي يحفر في تضاريس فترات إبداعية حساسة وملتبسة يرفض المحسوبون عليها أن تكون كلمة الفصل فيها لمن لم يخبر أطوارها، كان ضروريا أن يعترض على استخلاصات بنيس، خصوصا، في شأن تجربة جيل الستينات الشعرية بعض من شعرائه، بحيث اعتبرت محض تخريجات أو إسقاطات منهجية لا تمت بصلة لا لانتواءاتهم الإبداعية الخاصة، ولا للسياق الموضوعي لتجربتهم المشتركة، لكنها، أي الاستخلاصات، ستنتج، من زاوية أخرى، حوارا علميا هادئا حول أمور اختلف معه فيها باحثون آخرون كانت لهم وجهة نظر مغايرة في رؤية السقوط والانتظار، في شعر أحمد المجاطي مثلا، لأن السقوط، من هذه الوجهة، "ليس سقوطا للشاعر أو للشريحة الاجتماعية التي يمثلها، في فترة معينة، وإنما هو سقوط كل إنسان يحاول فك حصار من أجل الانعتاق فلا ينجح"[10].

مما استعرضناه يتبين أن مسألة البحث الأكاديمي في الشعر المغربي، قديمه وحديثه ومعاصره، تأخذ أوجها متفارقة في مسارات الباحثين العلمية. فإن كان الجراري قد اختار موضوع الزجل في المغرب لنيل درجة الدكتوراه، والطريسي موضوع الرؤية والفن في الشعر العربي بالمغرب لنيل نفس الدرجة، فإن كلا من السولامي، في موضوع الشعر الوطني في عهد الحماية 1912-1956، وبنيس في موضوع ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، وراجع في موضوع القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد، إنما هيؤوا هذه الموضوعات لنيل دبلوم الدراسات العليا. وفي مرحلة لاحقة سنرى الجراري ثابتا على نفس الاهتمام بالأدب المغربي القديم[11]، موازاة مع أبحاثه الفكرية والعقدية، والطريسي مواظبا على متابعة قضايا الشعر المغربي الحديث والمعاصر، مفردا في كتابيه التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري والشعرية بين المشابهة والرمزية: دراسة في مستويات الخطاب الشعري أحيازا وافية لشعراء كمحمد المختار السوسي، ومحمد الحلوي، وعبد المجيد بنجلون، وأحمد المجاطي، إلى جانب شعراء عرب كحافظ إبراهيم، والسياب، والبياتي، وأدونيس، أما السولامي فلن ينقطع من جهته عن استنصات أعمال ونصوص شعراء من بينهم محمد الحلوي، وأحمد المجاطي، ومحمد السرغيني.. لكن بالنسبة لبنيس وراجع، اللذين اشتغلا، أكاديميا، على الشعر المغربي المعاصر، فالملاحظ هو أن انتقال بنيس، في إطار دراسته الأكاديمية الموالية الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، إلى الأفق الشعري العربي الواسع سيتم في حرص دال على إدماج التمرحلات الكبرى للشعر المغربي في هذا الأفق، مما سمح لمحمد بن إبراهيم بمجاورة كل من بن ثابت بالتعايش مع خليل مطران، وجبران خليل جبران، نفس تعايش شاعر مغاربي آخر هو أبو القاسم الشابي، ولمحمد الخمار الكنوني بالتموضع في نفس موضع السياب، وأدونيس، ومحمود درويش، في حين سيتجه تفكير راجع إلى الإشاحة عن الشعر المغربي المعاصر، والانخراط، أكاديميا، في نفس الأفق الشعري العربي الواسع بغرض اختبار أعمق لبنية الاستشهاد البروميثيوسي[12] التي هيكلت المتن الشعري السبعيني.

على أي، ومهما تعددت الآراء بخصوص الشعر المغربي المعاصر فنحن لا يمكن أن نتنكر للجهد الإبداعي الذي اشتركت فيه أجياله المتعاقبة، كل ضمن حيثيات فترته وأسبقياتها وممكناتها، كما لا يمكننا التهوين من قيمة الدفعة التداولية والحوارية التي أمدته بها الدراسات الأكاديمية والنقدية التي اتخذ بعضها هيئة كتب، أو المقالات التي نشرتها الصحف والمجلات المومأ إليها آنفا، أو الندوات التي نظمها اتحاد كتاب المغرب[13] وجمعيات ثقافية أخرى، كمجمعية المعتمد بن عباد بشفشاون، وجمعية البعث الثقافي بمكناس، وجمعية الإمام الأصيلي بأصيلة… هذا دون إغفال الملتقيات الشعرية التي سنتها بعض المجالس البلدية، ومنها المجلس البلدي لفاس[14]، رغما من بطء استدراك الثقافة المغربية،في عمومها، لما تشكو منه مؤسساتها ومرافقها من خصاص، عكس ما هو عليه الأمر في المشرق، يعوق تقدم التفكير في شأن الشعر المغربي المعاصر. وكنتيجة فإن ذلك الجهد الإبداعي، وتلك الدفعة التداولية والحوارية، بقدر ما سيعززان الثقة في الهوية الشعرية المستحقة سيؤديان كذلك إلى تكسير جدار التجاهل المشرقي، وبالتالي إلى استمالة دوائر القرار النقدي، والإعلامي، في المشرق العربي إلى قضية شعر جدير بالثقة، وفي هذا المضمار لم يعد هناك من مانع في أن تخصص مجلة الآداب اللبنانية عددين خاصين للأدب المغربي الحديث، ومجلة الأقلام العراقية عددا خاصا له، مثلما لم تعد هناك عقبات أمام طبع دواوين لشعراء مغاربة، كعبد السلام الزيتوني، ومحمد بنطلحة، ومحمد بنيس، ومحمد الأشعري، والمهدي أخريف… من لدن دور نشر عمانية أو بيروتية أو بغدادية، بل وسيرتفع حاجز تسمية شعراء بعينهم، في سياق دراسات نقدية قطاعية أو شمولية تمحورت حول الشعر العربي المعاصر، كأحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد بنيس، وعبد الله راجع، ومحمد بنطلحة… وصولا إلى استئثار شاعر مغربي شاب، هو إدريس عيسى، بإحدى الجوائز الشعرية العربية.

ومع ذلك فلا يجب أن ينطلي على الطموح الشعري المغربي إغراء المكاسب الإبداعية والتداولية الناجزة، أو الخلود إلى عافية مستهامة. إنه مدعو، وربما أكثر من أي وقت مضى، إلى التعلق بمرامي جمالية ومعرفية بعيدة المدى إذا كان يتوخى استيفاء حضوره الفاعل، سواء في ثقافته المحلية أو في فضاء الثقافتين العربية والإنسانية. إن مرامي غائرة كهاته هي الكفيلة بإنتاج نصوص ناضجة لها من المؤهلات ما بمستطاعه تطوير الفعل النقدي المغربي وتصليب أدواته، بحيث يلزم أن نستحضر أن النقد الخلاق لا يمكنه النهوض إلا من جوف نصوص خلاقة هي الأخرى لأن الكساح الشعري لا يمنح سوى الكساح النقدي. فالشكلانية الروسية ما كان لها أن تحقق تلك الوفرة التصورية، والتماسك التحليلي، لو لم تغثها الإبداعية الخارقة للشعر الروسي المستقبلي، الذي كان فلاديمير ماياكوفسكي قطبه الأبرز، وبالمثل فإن نصوص الشعراء التصويريين الأمريكيين، بزعامة عزرا باوند، هي ما سيحفز النقد الأمريكي الجديد، الذي ازدهر في العشرينات، ويغني إجرائيته. فعلا إن الكتابة الشعرية مسؤولية فردية مرتهنة بموهبة الشاعر ومعرفته، لكن في تضاعيف حالة ثقافية غير مسعفة، كحالة المغرب، يبقى ملحا أن تنشأ قنوات الحوار والإنصات والإفادة بين جميع من يهمهم مصير التعبير الشعري في مغرب غدا، في عصر العولمة والاتصال، مجرد حي من أحياء القرية الثقافية الكونية. ومن هنا فلكم هي حاجة الشعر المغربي إلى الحلقات الدراسية المتخصصة، بحيث عبر جلسات "خميس الشعر" في بيروت، التي رعاها يوسف الخال وأدونيس ورفاقهما، اختمرت الكثير من الأطروحات الحداثية، ولكم هي انتظاراته العديدة في مجالات تمجيد الثقافة الشعرية، وتعميم الحق في معرفة الشعر، وتكثيف القراءات الشعرية، ورعاية ورشات الكتابة، مع إيلاء الشعراء، طبعا، المقام الاعتباري اللائق بهم.

وإلى حين تحقق هذه التطلعات فإن الواقع الشعري بالمغرب الراهن ينتظر من كافة المعنيين، شعراء ونقاد وقراء، صياغة أجوبة لأسئلة، هي من صميم ملموسيته المعيشية، من بينها مثلا:

ـ أيهما أولى: الكتابي أم الإنشادي في مجتمع ذي أغلبية أمية؟

ـ أ ي زخم يمكن أن تضفيه المعرفة الفلسفية، التي تكاد تكون مغيبة، على الممارستين الشعرية والنقدية بالمغرب؟ وأي موقع محتمل، في خارطتنا الشعرية، لشعراء قادمين إلى الشعر من رحاب الفلسفة، كبنسالم حميش ومحمد الشركي…؟

ـ ما هي مستويات التفاعل بين الكتابة الشعرية وبين فنون الرواية، والموسيقى، والمسرح، والتشكيل، والسينما..؟ وما هي المضاعفات الجمالية والمعرفية الناتجة عن مزاوجة شعراء، كمحمد السرغيني، ومحمد الأشعري، وبنسالم حميش، وحسن نجمي، ومحمد الشركي… بين الكتابة الشعرية والكتابة الروائية؟

ـ أي تداخل قائم بين كتابة الشعر وبين دراسته والبحث فيه لدى شعراء محكومين بوضعيتهم الأكاديمية، كأحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، وإبراهيم السولامي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد بنيس، وعلال الحجام، ومحمد بنطلحة، وأحمد بلبداوي، وعبد الله راجع…؟ أيحق أن ندرجهم في خانة الشعراء – النقاد أو الدارسين الذين كان لهم ثقلهم في بعض الثقافات الشعرية الغربية، كإليوت، وبول فاليري، وأرشيبالد ماكليش… والعربية كنازك الملائكة، وأدونيس، وكمال خيربك…؟

ـ ما المحل الحقيقي، في المشهد الشعري المغربي، لشعراء ظهروا عند تماس العقدين، الستيني والسبعيني، كمحمد عنيبة الحمراوي، وادريس الملياني، والحسين القمري، ومصطفى الزباخ، وحسن الطريبق… إذ يبدو تصنيفهم معلقا، شبيه ما حصل لفئات من الشعراء في التصنيفات الموجودة في بلدان عربية كثيرة؟ ألا يستدعي هذا التعليق الاعتناء بصوتهم الشعري البرزخي ضدا على ماهية جيلية مرسمة لا تكثرت بهذا الصوت وبخصائصه، ألا يجب مساءلة منجزهم الجماعي عوضا من الاستفراد بدواوينهم وقصائدهم شاعرا شاعرا؟

ـ ما هي التداعيات الشعرية والرؤياوية والثقافية لشعراء تشكل العقيدة الدينية مصدرهم الكتابي، كحسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، ومحمد بنعمارة؟

ـ أية دلالة يمكن أن يرخيها مصطلح الكتابة الشعرية النسائية، الذي يحيل على أسماء من قبيل مليكة العاصمي، ووفاء العمراني، وثريا ماجدولين. وهل هناك من اختلافات مقنعة تسوغ ترتيبات نوعية بناء على جنس الشاعر!

ـ كيف نستطيع قراءة استمرار القصيدة التقليدية حية، متماسكة، من خلال شعر محمد الحلوي، صوتها الأرقى، بحيث لم تتراجع، بصفة كلية، أمام رجة التحديث التي ألمت بالكيان الشعري المغربي، وبإزاء النزوع الطليعي المحتدم الذي ما فتئ متناميا لدى عدد لا يستهان به من الشعراء المجدين؟

ـ أي وعي شعري ونقدي يجب أن يوجه إعادة بناء ثنائية المركز-المحيط في الشعرية العربية المعاصرة على ضوء التلاحقات الشعرية، والمتغيرات التاريخية والمجتمعية والثقافية المتسارعة؟ وأي تعالق صحي مستوجب مع المرجع الشعري والثقافي الزنجي، باعتبار الانتماء الإفريقي للمغرب، ومع المرجع الشعري والثقافي الفرنسي والغربي، ومع مجرات إبداعية وحضارية، جرى تلافيها لأسباب مختلفة، في آسيا وفي أمريكا اللاتينية؟

ـ وقبل هذا وذاك لا بد أن نتساءل: أي متخيل شعري وطني يجب أن نهندسه وما طبيعة المهام التي يمكن أن ينوء بها، في هذا الإطار، ما يكتبه شعراء مغاربة باللغة الفرنسية، وما ترشح به المخيلة الشعبية من التماعات شاعرية تضيء الوجدان العام وتعبر عنه؟

في النهاية لا بد من القول إن مستلزم الحرية الإبداعية هو أس تطور الفعل الشعري، وتجذير عراكه الضاري مع اللغة ومع العالم، كما أن ركن الحرية الفكرية هو مقوم ارتقاء الأداء النقدي، وتضعيف قدراته على استغوار النصوص الشعرية وتقويل كثافاتها. وإذا كان مشروعا أن يتخيل أي شاعر كان مغربه الخاص، أن يبتنيه مجازيا لحسابه الذاتي، فمن حقنا أن نتذاكر في الصورة الاستعارية الممكنة لمغرب آخر، مختلف، مورط، ككل بلدان المعمور، في تبعات عصر ذري-معلوماتي لايني يدمج البشر في مصهرة مآل أوحد. فإلى عهد قريب كان منتهى ما يتوقع من النص الشعري المغربي المعاصر، المكتوب بالعربية، هو توفقه في استيفاء دمغته المغربية-العربية، بينما كان شقيقه، المكتوب بالفرنسية، مطالبا، بأثر من انشطار منتجيه بين هويتهم المغربية وبين لغة المستعمر، بأن يستجيب لأفقي انتظار قرائيين اثنين، أحدهما مغربي مفرنس والآخر فرنسي خالص، إذ "أن يكون المرسل إليه مغاربيا أو غربيا، فإن قراءة هذه النصوص تجد ذاتها مؤطرة بمرجعياتها الثقافية الخاصة"[15]. أما الآن، وفي عنف انقلابات معرفية وقيمية جمة، فلا مناص من التساؤل عن أي نص شعري لأي قارئ؟

لا يستفاد من هذا نفض اليد من جوهر مرافعة عبد الله كنون عن موجودية الأدب المغربي، ومنه الشعر، التي أقامها في الثلاثينات، غير أننا نود أن يتم تعقيل دفوعاتها الإقناعية بحيث يجب أن يتركز الإثبات ليس على سند التراكم والابتكارات الشعرية المتناثرة، وإنما على تحديث التعاطي مع شعرية معاصرة، ناشئة، قد يحول الاعتناق الوثني لهاجس تحققها، بأي وجه كان، دون التمعن الهادئ في كيفية هذا التحقق، وفي نجاحاته وإخفاقاته كذلك.

لقد كان تمرحل درس/نقد الشعر المعاصر بالمغرب في تساوق شبه تام مع تمرحل مبدأ الموجودية وتلونه، وما سيطبع المقاربات الإيديولوجية، التي واكبت هذا الشعر خلال فترة ميزها التشنج الإيديولوجي، هو البحث عن نصوص شعرية مغربية قحة تسترفد واقعا مصطخبا وتتسامى في ذات الوقت، شكلا رمزيا متعاليا، بمعنى أنها كانت منشدة، كما النقد التاريخي اللانسوني في الأدب الفرنسي، مع اختلاف الملابسات إلى نصوص تحظى بقوتها الإبرائية، الوطنية-الإيديولوجية، "فليس الأثر المتشكل هو ما كانت تبتغيه، بل الأثر الصافي"[16] ، وفي المقابل فإن ما سيسم المقاربات النصية، فضلا عن تنسيبها للفاعلية الشعرية، هو تنحيتها للحق النقدي في المتعة القارئية، في التأول، وفي الإصغاء إلى هسيس الذوات المبدعة، وإلى اعتناق التواريخ الناغلة في رحم النصوص.

والظاهرة أنه ليس بمقدور لا المنظور الإيديولوجي، بمسبقاته المتصلبة، ولا المنظور النصي، بعمائه التقنوقراطي، الولوج إلى مضمر القصيدة الشعرية، وإلى مكمن تجوهرها الفذ. إن "النقد حوار وفي صالحه أن يتقبل هذا الأمر بانفتاح. إنه ملتقى صوتين، صوت المؤلف وصوت الناقد، بحيث لا مزية لأحدهما على الآخر"[17].

على مدى سنوات اختبر الصوت النقدي الإيديولوجي، والصوت النقدي النصي، وأحيانا الصوت النقدي المركب: السوسيو-نصي، بينما ظلت مغيبة أو تكاد، أصوات تمتلك نبرة تعد نسيج وحدها في مخاطبة النصوص والتحاور معها، أصوات فلاسفة ومفكرين ونقاد يقومون مقام مدارس بكاملها: مارتن هيدغر، ميكيل دوفرين، ميغيل دي أونامونو، موريس بلانشو، رولان بارت.

أية مهام خيالية وروحية تنتظر الكتابة الشعرية بالمغرب؟ أية مسافات تصورية وفكرية على درس/نقد الشعر المعاصر بالمغرب اجتيازها لكي يؤاخي بين مقتضى الهوية وبين مطمح الحداثة؟

إنهما استفهامان موكولان لحجم غيرتنا على الشعر المغربي ودرسه / نقده، وأيضا لجدية تفكيرنا، وتأملنا، في القول الشعري، وفيما يقال عنه سوء بسواء    n




[1] - محمد زنيبر، (أين يتجه الأدب في المغرب الأقصى)، مجلة الآداب، ع3، (الخاص بالأدب المغربي الحديث)، مارس 1978، ص4.

[2] - يمكن أن ندرج في هذا المنحى كتاب الأدب المغربي لمحمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفي، ودراسات حامد النساج.

[3] - عبد الله كنون: النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، ط2، بيروت، 1961، ص31-32.

[4] - هذه النقطة عالجناها بشيء من التوسع في دراستنا لتجربة أحمد المجاطي الشعرية، الموسومة بـ(عندما يسعف الموت ولا يسعف التاريخ ولا العبارة)، والمنشورة في مجلة آفاق، ع58، 1996.

[5] - محمد بنيس: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، دار العودة، بيروت، 1979، ص389.

[6] - عبد الله راجع: القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد، ج1، منشورات عيون، الدار البيضاء، 1987، ص5.

[7] - نقصد رسالة دكتوراه السلك الثالث التي دافع عنها عام 1987 في جامعة إيكس أنبروفانس، والتي تحمل عنوان قراءات نقدية للشعر المغربي المعاصر: تحليل وتقويم.

[8] - إدريس الناقوري: المصطلح المشترك، دراسات في الأدب المغربي المعاصر، ط3، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977، ص234.

[9] - عبد الله راجع: مرجع مذكور، ص5.

[10] - الدكتور أحمد الطريسي: التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، الرباط، 1989، ص95.

[11] - لكن من غير أن ينثني بالمرة عن الكتابة النقدية حول الجديد الأدبي في المغرب، ومن ذلك كتابه تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب، الصادر عام 1997.

[12] - كان الشاعر الراحل قد أخبرني، في أحد لقاءاتنا أواخر الثمانينات، أنه يفكر في تناول الرؤية البروميثيوسية في شعر أدونيس وسليم بركات كموضوع لأطروحة الدكتوراه.

[13] - وذلك إضافة إلى اهتمامه بطبع دواوين شعراء متمرسين وشعراء من الرعيل الشاب، وتخصيص بعض فروعه لأيام دراسية حول شعراء بعينهم، مثل تلك التي خصصها فرع الدار البيضاء للشاعر محمد بنطلحة، عام 1996، وفرع فاس للشاعر أحمد مفدي، في نفس العام، مع صدور الدراسات والشهادات التي أنجزت حول هذا الأخير في كتاب يحمل عنوان التجربة الشعرية عند أحمد مفدي صدر سنة 1996، وفيما نعلم فإنه الشاعر المغربي السبعيني الوحيد الذي استقل، من حيث التناول، بكتاب كامل، تماما كما استفرد الشاعر الستيني محمد السرغيني بكتاب محمد السرغيني.. تحديث القصيدة المغربية الصادر عام 1999، ضمن منشورات مؤسسة منتدى أصيلة.

[14] - لا بد من الإلماع هنا إلى ملتقى الربيع الشعري الذي أرساه هذا المجلس منذ الثمانينات، وعمله على واجهتي استقطاب شعراء عرب مرموقين وتكريم شعراء مغاربة معاصرين لهم مكانتهم المتميزة، كأحمد المجاطي الذي كرم عام 1995، ومحمد السرغيني الذي كرم عام 1996.

[15] - MARC GONTRAD : (La double réception du texte maghrébin et le système du texte mixte), in Horizons maghrébins, n° 17, 4ème trimestre, 1991, p59.

[16] - ROLAND BARTHES : Critique et vérité, coll. Tel quel, Ed. du Seuil, Paris, 1966, p66.

[17]- TZEVETAN TODOROV : Critique de la critique, Coll. Poétique, Ed. du Seuil, Paris, 1984, p185
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات