تقنية الكتابة بين الرواية والسينما
نور الدين محقق1 – سؤال العلاقة وهوية التواصل:
إن السؤال الذي يطرح حول العلاقة القائمة بين نسقين تعبيريين تواصليين مختلفين، الأول يعتمد على لغة الكلمات في عملية تحققه في حين أن الثاني يعتمد على لغة الصورة في كليتها مؤازرة في ذات الآن بلغة الصوت الملفوظ، يطرح أكثر من إجابة، خصوصا في مجتمع عالمي جديد، يعرف نفسه بأنه يمثل حضارة جديدة هي "حضارة الصورة" على اعتبار أن المجتمعات السابقة عليه، كانت تمثل حضارات الكلمات في تنوعها واختلافها، وإذا نحن علمنا أن الصورة توازي أو تفوق، كما يقول المثل، ألف كلمة، أدركنا أهمية هذا التمييز واستطعنا أن نلمس بعض دلالاته المتسترة. لكن ونحن نسعى لتحديد نوعية هذه العلاقة القائمة بين الكلمات والصور، فإننا نرفض ضمنيا أن تسقط في إقامة تراتبية كيفما كان نوعها، تأثيرية أو تواصلية أو حتى فنية، بين هذه الأنساق الثقافية. فإذا كانت تقنيات الصورة تمثل بدون أدنى شك، واحدة من أهم نقاط استيعاب التخييل المجتمعي المعاصر ومنحه آفاقه الكبرى، فإن هذا لايمكن أن ينسينا بأن عملية الاستيعاب هاته تتم في زخم ثقافي شامل يساهم في تكوينه أيضا وبنفس العمق عناصر ثقافية أخرى في مقدمتها الأدب بجميع أجناسه والفن التشكيلي بشتى مدارسه والمسرح بمختلف تجلياته، وبالمنطق نفسه أيضا، فإن دراسة العلاقة بين الكلمات والصور، لايعني أبدا تفضيل الكلمات، على اعتبار أن الصور تظل دائما ناقصة. من هنا فإن دراستنا لهذه العلاقة، ستتم بشكل محايد، إذ سينصب اهتمامنا على تحديد المفاهيم والتقنيات المتحكمة في كل تعبير منهما، انطلاقا من العلامات المحددة له[1] متخذين من جنس الرواية ممثلا للكلمات ومن فن السينما ممثلا للصورة، على أساس أن هناك ائتلافات مفاهيمية وتقنية توحد بينهما، حتى وإن اتخذت في كل واحد منهما شكلا سيميائيا مختلفا، وأهم هذه المكونات السرد والتسلسل الحدثي والشخصيات والفضاء والزمان.
2 – السرد الروائي والسرد السينمائي:
تتميز الرواية كجنس أدبي أساسه اللغة المكتوبة، بكونها تتأسس على عنصر السرد بالدرجة الأولى، هذا السرد الذي يتقاطع في مجمله بعنصر الوصف، حيث يشكلان معا إيقاعا امتداديا تحكمه بنية حدثية منبنية على توالي الأسباب والمسببات الناتجة عنها، كما يذهب إلى ذلك تزفيتان تودوروف، إضافة إلى وجود سارد وشخصيات وفضاءات وأزمنة، وهي بذلك تلتقي مع مجموعة من الأجناس الأدبية الأخرى في هذا الجانب، كجنس الحكاية والقصة، لكن ما يميزها هو كونها تبقى جنسا أدبيا هجينا غير مكتمل، قابلا لاحتواء مختلف هذه الأجناس وصهرها في بنائه من جهة، وقادرا على تفكيك بنياته المشار إليها لاحتواء مختلف هذه الأجناس وصهرها في بنائه من جهة، وقادرا على تفكيك بنياته المشار إليها وتجاوزها عن طريق تفكيكها وإعادة بنائها من جديد، من جهة أخرى، وهو ما يجعل من عملية تعريفها مسألة صعبة، إذ إن عملية التعريف هاته تظل في الغالب مرتبطة بنموذج سبق تحققه وتم في الغالب تجاوزه. إلا أنها مع ذلك وبالرغم من تنوعاتها هاته، وبدءا من طورها الواقعي حتى طورها الأكثر حدة والمتمثل في الرواية الجديدة وما بعدها، تظل محكومة، شأنها في ذلك شأن الحكاية، بمسار سردي محكوم بترابط منطقي ومكون من سلسلة من الوظائف الفاعلة في إمكانية تتابع أحداثها. كما أن السارد فيها، هو الذي يقوم بلعبة ترتيب عمليات الوصف ويحدد طريقة توالي الأحداث وهو الذي يختار أن يخبرنا بهذه الانقلابات أو تلك عبر الحوار بين الشخصيات أو عن طريق وصف موضوعي[2]. وهو ما يؤهلها، في مقابل الأجناس الأدبية الأخرى، لأن تتحول إلى فيلم سينمائي، خصوصا إذا علمنا أنها تلتقي مع كثير من عناصر بنائه، وأولها السرد، على اعتبار، وكما يذهب إلى ذلك رولان بارت، أن السرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة، كما يمكن أن تحتمله الصورة ثابتة كانت أم متحركة[3]. لكن هذا السرد إذا كانت عملية تحققه في الرواية تتم بواسطة اللغة، أي بواسطة متواليات جميلة، كل جملة منها تحقق معنى دلاليا خاصا بها، لكنها في المقابل تشكل مع باقي الجمل الأخرى التي تجاورها المعنى الكلي للعمل الروائي المتواجدة فيه، فإنه في الفيلم السينمائي، يتحقق عن طريق الصور؛ أي عن طريق متواليات صورية، كل صورة منها، تقدم معنى دلاليا خاصا بها، لكنها مثلها في ذلك مثل الجملة في اللغة، تساهم في تشكيل المعنى الدلالي العام للفيلم وهي تتصل بباقي الصور المكونة له، وكما أن اللغة، ليست بريئة، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت نفسه، إذ إنها تحمل معها ذاتية كاتبها وثقافته، فإن الصورة هي الأخرى، بما أنها كلام على حد تعبير كريستيان ميتز[4] تحل محل الكلام الذي نعرفه في الرواية (نفسه) فإنها تتجاوز كونها مجرد التقاط لواقع عيني مقرر سلفا، ذلك أن زاوية التقاط هذه الصورة تنقذها من طابعها الميكانيكي المحض وتسمو بها نحو الفن. وهي التي تحدد الفرق بين الصور المتعددة المأخوذة لنفس المشهد الواقعي الواحد، كما أنها هي التي تمنح للصورة الملتقطة دلالتها الخاصة، فإذا كان الكاتب الروائي، كما يذهب إلى ذلك لوي ذي جانيتي، يعيد خلق تجاربه المستمدة من الواقع من خلال فعل الكلمات وكيفية التعبير بها، مستعملا زوايا نظر خاصة به، مستغلا كون المعاني التي نستمدها من الوسط اللغوي، تتجاوز بطبيعتها التخييلية المعاني التي نعيشها بالفعل داخل المجتمع، فإن هذا لا يمنع، حتى وإن تطلب الأمر مجهودا أكبر، من المخرج السينمائي، تجاوز مرفعية التصوير الفوطوغرافي وتشكيل واقع خاص به ومطبوع ببصماته الفردية وهو يقوم بتصوير واقع محدد سلفا، خصوصا إذا علمنا أن الصورة السينمائية هي أكثر تعقيدا من الكلمة "لأن تكوينها يتميز بازدواج عميق، فهي نشاط فوري لتقنية آلة قادرة على إعادة إنتاج الواقع الذي تشتغل عليه بدقة وموضوعية، وهي في ذات الوقت، نشاط موجه في الاتجاه المحدد والمرغوب فيه من قبل المخرج على حد تعبير جيل دولوز[5]. من هنا فإذا كانت الرواية جنسيا هجينا، بمعنى أنها قابلة لاحتواء مختلف الأجناس الأدبية، فإن السينما في مقابل ذلك، ممثلة هنا بالفيلم السردي، تبقى أشمل منها، فهي تضم بالإضافة إلى مختلف الأجناس الأدبية وفي مقدمتها الرواية ذاتها، أجناسا فنية خارج لغوية، في مقدمتها التصوير الفوطوغرافي والتشكيل الرسمي والإيقاع الصوتي الذي يتكون من عناصر ثلاثة هي القول التلفظي والموسيقى وباقي المؤثرات الأصواتية الأخرى التي تكون مصاحبة إما للشخصيات القائمة بالحدث أو الفضاء الذي يحتويها ضمنه أو الزمان المتحكم في أفعالها. وإذا كانت الصورة قادرة على احتواء هذه الأجناس الفنية التي أشرنا إليها، دون عناء، فإن عنصر الصوت في تعدديته تلك، يظل مصدر إغراء وجلب بالنسبة إلى المخرجين السينمائيين، ذلك أنه بمنحهم فرصة أخرى للإبداع بعيدا عن الصورة وقريبا منها في ذات الآن، ذلك أن الصوت يساعد المخرج على أن يمنح للصورة بعدها الدرامي، ويساعده على توسيع إطارها المحدود حينما يجعل منه خلفية متممة لما تحتويه من مشاهد، إضافة إلى كونه، أي الصوت، يمنح للصورة أبعادها الذاتية، بحيث ينوب عنها في عملية توحيد تسلسلها المنطقي وتحديد أسبابه. إلا أنه بقدر أهمية الصوت في تشكيل بنية الفيلم السينمائي ومضاعفته للصورة في ذلك، بقدر خطورته والخوف من هيمنته عليها، من هنا، فلا يجب أن ينبني الفيلم عليه بشكل كلي بحيث يصبح شارحا لمعالم الصورة في كينونتها وحائلا دون تعددية معانيها، بل وكما يذهب إلى ذلك مارسيل مارتان، عليه أي الصوت أن لا يكون مسموعا بقوة، بل مستمعا إليه، من خلال صورة أخرى تمنحه شمولية التعبير وتفسح المجال أمامه لإضافة تعبيرية أخرى لها[6]. ذلك أن عملية اختراع الصوت وإلصاقه بالسينما شكل، كما يقول لوي دي جانيتي، ميزة عظيمة، لصانع الفيلم ومنفذه عملية إخراجية، إذ منحه قدرة التعبير، من خلاله، عن أي نوع من الأفكار التجريدية التي يريدها، حتى وإن تم قبل عملية ظهوره، اكتشاف عدد من التقنيات التشخيصية غير اللفظية، التي تم من خلاله التعبير عن نفس هذه الأفكار، وإن لم يكن الأمر بنفس لكثافة الدلالية، وأفلام شارلي شابلن الصامتة خير دليل على ذلك[7].
نخلص من هنا إلى القول إن لكل من السرد الروائي والسرد السينمائي مميزاته الخاصة به، حتى وإن التقيا في الكثير منها، ذلك أن السرد الروائي باعتماده على اللغة المكتوبة وحدها، يستطيع ذلك دوريث كوهن، أن يشخص الحياة النفسية للشخصيات الروائية تشخيصا داخليا عميقا، اعتمادا على تقنية المونولوج، في حين أن السرد السينمائي لا يستطيع فعل ذلك، وإنما يكتفي بالقبض على الصورة وهي تتشكل خارجيا، من خلال تعبيرات الشخصيات الإشارية التي يمنحونها لملامحهم. وهو أيضا ما لايستطيع السرد الروائي أن يقوم به مهما اعتمد في لعبة تتابعه على التقاطع المستمر بينه وبين الوصف، هذا الوصف الذي "ينجح أكثر في تحويل "الواقعي"، "المادي" إلى متخيل، أكثر مما تستطيعه "عين الكاميرا"، التي "تنجذب نحو نوع من المحاكاة أكثر حرفية[8].
3 – الإيقاع الروائي والتبئير الوصفي:
يعتمد الإيقاع الروائي، كما هو الشأن في مختلف الأجناس الأدبية وحتى خارج أدبية على عنصر التكرار والتوالي وفق سيرورة محددة ومضبوطة، للعناصر المكونة للبنية الروائية المتحكمة في عملية خلقه، كالأحداث والشخصيات القائمة بها والأمكنة المتواجدة فيها والأزمنة المؤطرة لها، أي إلى المسار الروائي بدءا من عملية تشكله ووصولا إلى لحظة انتهائه. وهو ما يؤكده ألبيريس في كتابه "تاريخ الرواية الحديثة" بقوله: "إن الإيقاع الروائي هو إيقاع للمحاورات بأكملها، وللحوادث وللمشاهد الروائية، فبعض الروايات بأسرها انسجامها الداخلي بقوة الترابط التي توحي بها وتعقدها، وبإيقاع الحركات الروائية التي تتصالب فيها"[9]. إلا أن ما يمنح لهذا الإيقاع الروائي قوته وديناميته، يتجلى بالخصوص في زوايا الرؤى التي تمت من خلالها عملية تشكيل عناصره تلك، إذ ما يميز رواية عن أخرى ليس هو بالضرورة الأحداث المنبنية عليها بقدر ما هو عملية صياغة هذه الأحداث وفق منظور معين، يتحكم في عملية تقديمها وتبئير كل منها بحسب الأهمية التي يراد منحها له، لاسيما وأن هذه العناصر، بالرغم مما قد تحمله من سمات واقعية تبقى في نهاية الأمر، مجرد علامات لغوية ليس إلا، من جهة وكيفية القيام بوصفها وصفا دقيقا، يقربها من مخيلة المتلقي المفترض، ويجعله يحس بها قريبة منه، فيخلق لها صورا مستمدة من تجاربه، ذلك أن الكاتب الروائي مثله مثل المخرج السينمائي، هو "صانع صور" لكن صوره هاته هي صور من كلمات، فهو يخلق صورة لشخصياته كما يخلق صورة لزمنها ولفضائها، إضافة لخلقه صورة للأحداث التي تقوم بها[10] معتمدا في ذلك على عملية الوصف، الشامل لها والمحدد لمجمل عوالمها، كما فعل مثلا كل من هنري بالزاك وهو يصف المجتمع الفرنسي، بمختلف تجلياته، وصفا دقيقا متتبعا فيه كل شخصية شخصية وكل حدث حدث وكل فضاء فضاء وكل زمن زمن، بحيث قدم صور كاملة له، وهو ما قام به أيضا نجيب محفوظ بالنسبة إلى المجتمع المصري، لاسيما في مرحلته الواقعية. إلا أن هذا الوصف مع ذلك، ظل وصفا خارجيا، يعتمد على العين وينقل ما احتفظت به إلى اللغة، وهو ما يجعله قريبا من العمل الذي تقوم به الكاميرا وهي تسجل ملامح الشخصيات ومعالم الفضاءات التي تتواجد بها. ومثلما ثار المخرجون على ذلك واعتبروه مسا بإبداعاتهم وقدرتهم على الخلق، وتجاوز نقل الواقع كما هو، إذ كما يقول آرنهايم، إن الذي ينافس الطبيعة يستحق أن يكون خاسرا[11]. فإن الروائيين قد شعروا بذلك قبلهم، حين سعوا جاهدين إلى تحويل وصفهم البصري هذا، الذي يكتفي بالتقاط الأشياء كما هي، إلى وصف إبداعي، يرتبط بالذات الواصفة ويقوم بعملية تصوير الأشياء وفق منظورها الذاتي. وهو ما خلص هذا الوصف من "وهم الاستنساخ والمحاكاة المتقصية، الشاملة"[12] وجعله ينتبه إلى غير المشترك وتشييد ما هو في الإمكان وليس ما هو كائن. ذلك أن أهمية الوصف لا تتحد انطلاقا من ذاته وإنما من عملية تبئيره هو الآخر. إذ عن طريق تبئيره تتم عملية كل العناصر الأخرى التي يقدمها. والتبئير مهما اختلفت مصطلحاته، فإنه يتحقق انطلاقا من ثلاث رؤى مختلفة، تتجلى على الشكل التالي:
1 – الرؤية من الخلف: وهي الصفحة الأكثر تداولا في السرد الروائي الكلاسيكي، حيث يتم وصف كل العناصر المكونة له وصفا كليا سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي، فالسارد هنا يكون على معرفة شاملة بمكونات العالم الروائي الذي يقوم بإنجازه، وغالبا ما تشبه عينه هنا بعين كاميرا ماسحة لكل شيء تلتقي به، إلا أن هذه العين السردية تستطيع الوصول إلى الأعماق في حين تظل عين الكاميرا مركزة على السطح.
2 – الرؤية المصاحبة: وهي صيغة أصبحت معروفة في السرد الروائي الحديث، فالسارد فيها لا يكاد يتجاوز معرفة الشخصيات التي يقدمها، إنه يسير في موازاة معها، يصف ما تراه ويحدده انطلاقا مما تبصره.
3 – الرؤية من الخارج: وهي صيغة يكون السارد فيها أقل معرفة مما تعرفه شخصياته، وهو لا يصف إلا ما نراه وما نسمعه[13]. وهو ما يجعل من هذا النوع السردي الذي يعتمد على الوصف الحسي الخارجي المجرد عن أي شحنة ذاتية، غير معقول كما يلاحظ تزيفيتان تودوروف[14] ولا يمكن له التحقق إلا في العرض المسرحي، وبكثير من المشقة وبنوع من الإفراط في استعمال التقنيات.
إن هذا التبئير الوصفي، كما حددناه هنا، هو الذي يمنح للسرد الروائي خصوصياته، ويجعل كل رواية تنفصل عن باقي الروايات الأخرى، حتى وإن تحدثنا عن مادة روائية واحدة، إنه هو الذي يقدم لنا صورة الرواية في كليتها، ويحدد لنا الرؤية التي يقدمها الروائي في شكله المتعالي للعالم الذي يقدمه.
4 – الإيقاع السينمائي وحركة الكاميرا:
يعتمد الإيقاع السينمائي في عملية خلقه على مجموعة من التقنيات، تأتي في مقدمتها الزوايا التي تأخذها الكاميرا في عملية التقاطها للمكونات الداخلية للفيلم، من شخصيات وأحداث وفضاءات أزمنة، إذ أن هذه الزوايا هي التي تحدد خصوصية الصور المقدمة، وحدودية تتابعها بالتالي وفق نسق شمولي، يتحكم في عملية توليفه وإعطائه صبغته النهائية، إذ إن هذا الأخير يساهم في تحقيق ثلاث وظائف كبرى، أولها الحركة، التي تساهم في منح الزمان صورته كما تعطي للمكان امتداده الفضائي، إضافة إلى كونها الوسيلة التي تحقق بها الشخصيات في الفيلم وجودها الفعلي المتوهم، وثانيها توفير التسلسل الحدثي وربطه بعضه ببعض من أجل خلق مسار سردي متكامل، وثالثها، أنه، أي المونطاج، يساهم بشكل جلي في خلق دلالات الفيلم الكبرى ومنحها أبعادها المعنوية، فعملية الربط بين لقطة سينمائية وأخرى يتولد عنه تحديد فكرة معينة، يسعى المخرج من خلال توليفه ذاك إلى إيصالها[15]. وبما أن الكاميرا "ليست إلا آلة تصوير، قادرة على تسجيل عدد محدد من "الصور" وفق نسق منتظم، يرتكز في عملية إنجازه على ثلاث حركات تتحقق على الشكل التالي:
1) حركة فوقية، تكون فيها الكاميرا على ركيزة –عربة ودعامة مرقبية تسمح بتحول عمودي في زاوية الرؤية، وتكون الركيزة- العربة مركبة على ثلاث عجلات بحيث تنتقل بسهولة؟
2) حركة دائرية: تكون فيها الكاميرا فوق محورها العمودي أو الأفقي، مما يسمح لها برؤية شاملة لما تقوم بالتقاطه.
3) حركة متوسطية، تكون فيها الكاميرا فوق آلة رافعة، ويتم انطلاقا منها تصوير اللقطات البين-بين[16].
إن كل واحدة من هذه الحركات الثلاثة التي تتمركز فيها الكاميرا يقدم لنا نوعا من الصور، تحددت وظائفه التعبيرية وفق النسق الكلي للفيلم الذي وضع فيه، وضمن الإطار المخصص له، ذلك أن المساحة في أعلى الإطار، وكما يذهب إلى ذلك لوي دي جانيتي، "يمكن أن ترمز للقوة والسلطة والطموح والجسم الموضوع هنا يبدو وكأنه يسيطر على كل العناصر الصورية تحته"[17]. كما أن القسم الأسفل منه، وبحسب الكاتب نفسه "يمكن أن يرمز إلى معان عكس ما يرمز إليه القسم الأعلى. فهو يرمز للخنوع والضعف، والاستسلام. إن الأشياء والأجسام التي توضع في هذه المواقع الدنيا تبدو في نظر الانزلاق خارج الإطار تماما، ولهذا السبب، تستغل هذه المساحات لترمز إلى الخطر". أما إذا أراد المخرج التعبير عن دواخل الشخصيات وهو ما رأينا أن عين الكاميرا تكاد أن تعجز عن القيام به، بخلاف اللغة الروائية، فإنه في الغالب، يلجأ في هذا الصدد إلى الاستخدام الدينامي للخطوط، ذلك أن "الصورة المكونة من الخطوط المائلة المكثفة يمكن أن توحي بالصخب الداخلي" الذي تسعى الشخصيات للتعبير عنه، في حين أن الخطوط الأفقية أو حتى العمودية تحمل معنى السكون المصاحب للشخصيات المعبر عنها. إن الإطار بشكل عام الذي تتواجد فيه الصورة السينمائية يعتبر وسيلة تعبير جمالية تتميز مدى قوتها وضعفها بحسب الرؤية الإخراجية المتحكمة في عملية توجيهها[18]. إلا أنه مع ذلك، فوجهة النظر، أو اللعبة التبئيرية للأشياء، تظل أقل منها في الفيلم مما هي عليه في الرواية، بالرغم من تواجد الرؤى الثلاث التي سبق لنا الحديث عنها في الرواية، في الفيلم أيضا، ذلك أن الرؤية من الخلف، نجدها مستعملة بوضوح في الأفلام التسجيلية، حيث أن السارد هنا لا يشارك في الأحداث، بقدر ما هو على معرفة تامة بمجرياتها، أما الرؤية المصاحبة، فنجدها في الأفلام التي يقوم فيها البطل بحكاية قصته، وهي غالبا أفلام تنحو المنحى السير الذاتي، وهذه الأفلام بالرغم من إبداعيتها واقترابها من سينما المؤلف، فهي تظل منحصرة ضمن نظرة أفقية منضبطة، على عكس سينما المؤلف التي توحد بين الذات والموضوع، إن هذه النوعية من الأفلام، قد سعت إلى تحويل الكاميرا إلى مجرد قلم تتم به كتابة أفلام ذات نزعة سير ذاتية بالخصوص، حيث وجدت السينما في هذا النوع من الأفلام مرونة متوالية للزمن السردي الذي يؤسس الرواية المكتوبة من خلال ضمير المتكلم والمنبنية انطلاقا من رؤيته المصاحبة، فحاولت تقليده عن طريق الالتزام بزاوية النظرة ذاتها من أجل خلق أفلام ذاتية، لكن فشل بعض الأفلام التي سعت إلى تحقيق ذلك مثلما وقع مع فيلم "سيدة البحر" سنة 1946 لروبير مونتغو ميري، لم يكن إلا تأكيدا، كما ذهبت إلى ذلك جان-ماري كليرك، إلا لشيء واحد، هو أن الرؤية السينمائية ليست لاموضوعية تماما ولا ذاتية تماما أيضا إذ إن أصالتها الفنية تكمن بالأساس في قدرتها على المخرج بين زاويتي النظر هاتين، بحيث يجد المتلقي-المشاهد للفيلم نفسه يعيش داخل عالم الفيلم من جهة وخارجه من حيث استطاعته الانفصال عن أحداثه من جهة أخرى[19]. وهو الأمر الذي دفع منذ البداية الكثير من المخرجين إلى استثمار تقنية الرؤية من الخارج، حيث يتم تقديم أحداث الفيلم في تزامن مع الإدراك الذي يتولد لدى شخصياته من جهة والمتلقي-المشاهد له من جهة أخرى. لكن وكما هو أمر الفن دائما، سواء كان في السينما أو الرواية، فإن المبدع الحق هو الذي يستطيع بحسه الفني أن يخلق اللحظة الفنية وبالتقنية التي يراها هو مناسبة لها، كما يستطيع تجاوز التقنيات واستعمالها الحرفي إلى إبداع استعمال جديد، لا يستطيعه إلا هو دون سواه، ولا يتناسب إلا مع رؤيته الخاصة. عن طريق دمج موقف لجميع الإمكانيات المتاحة له، من صورة وصوت ولون، وأداء، في بوتقة فنية متكاملة، خالقا بذلك وحدة منسجمة بين شخصيات الفيلم وفضاءاته وأزمنته.
5 – الشخصيات السينمائية وبنية التأطير الصوري:
تتجاوز الشخصيات السينمائية كونها شخصيات داخلية لاتنتمي إلا إلى الفيلم السينمائي كما هو الشأن مع الشخصيات الروائية، ذلك أنها تحمل معها صبغتها التشخيصية للأدوار المسندة إليها، كما تحمل معها، طريقة ملبسها وعملية تمويهها التي يقوم بها الماكياج الذي استعملته، إضافة إلى ضرورة تكيفها مع عين الكاميرا المسلطة عليها التي ستحتويها داخلها وتحولها إلى مجرد صورة، وآلة التسجيل الصوتي المصاحبة لها التي تلتقط نبرات صوتها بشتى تعبيراتها الانفعالية، إلا أنها ما أن تتم عملية تأطيرها داخل الفيلم وانتقالها إلى مجرد صورة، حتى تتحول من إطارها الواقعي هذا إلى إطار تخييلي، تصبح إثرها مجرد علامات من العلامات المشكلة لبنية الفيلم[20]. وتتم دراستها انطلاقا من ذلك، حتى وإن ظلت بالنسبة إلى المتلقي-المشاهد، تحمل بعدين أحدهما خارج علاماتي، وهو ما يجسد الشخص الواقعي، والثاني داخل علاماتي، وهو ما تجسده الشخصية التي يتقمص دورها في الفيلم.
6 – خصوصية الزمن في السينما:
إن الزمن السينمائي قد كان في بدايته هو الزمن الدياكروني الذي يحاول التقاط الزمن الواقعي للتسلسل الحدثي للقصة. ولكنها سرعان ما تخلت عن ذلك، عن طريق اللعب، من خلال المونطاج المولد للحركية الصورية المشكلة له، خالقة بذلك إيقاعا خاصا بها، الذي ليس هو بالتالي إيقاع الحركة وحدها وإنما إيقاع لصور الحركة. فالمونطاج يوحد وينظم السيرورة الزمنية عن طريق تقديم اللقطات السينمائية وفق م اتحمله من دلالة، تجعل الواحدة منها تلي الأخرى، أو عن طريق التلاعب في عملية الترتيب[21]. من طريق لعبتي الفلاش باك أو الكان باك، وهو ما نجد له مثيلا أيضا في تعامل السرد الروائي مع الزمن المنطوي داخله، لكن السرد السينمائي، وبالضبط الفيلمي منه موضوع اشتغالنا، يفتقر إلى الإشارات الفضائية المصاحبة للزمن اللفظي، وهو ما دفع صناع الفيلم، بتوجيه مخرجه إلى تعويض ذلك عن طريق استعمال مجموعة من التقنيات والإشارات البصرية، المنفتحة والمنغلقة على الألوان المختلفة، هذه الألوان، التي يرى آنهايم أنها أكثر من مجرد كونها ذات نفع، إذ إنها تتجاوز ذلك إلى التعبير عن أفكار رمزية، إضافة إلى قدرتها على إبراز خصائص الأشياء، ونقل اهتمام المتلقي-المشاهد، من نقطة زمنية أو فضائية معينة إلى أخرى[22] من أجل خلق إيهام بالوجود الزمني لدى المتلقي-المشاهد، ولكن مع ذلك، وكما يقول رولان بارت فـ"كل صورة هي بمعنى ما حكاية"[23]. وهو ما يجعل من الزمن في السينما، لا يتجاوز كونه زمنا حاضرا باستمرار، حتى لدى استعادته للزمن الماضي أو استشرافه للزمن المستقبل، إذ إنه يمر في لحظة زمنية حاضرة بالنسبة إلى المتلقي-المشاهد.
7 – خصوصية الفضاء في السينما:
يشكل الفضاء أحد أهم العناصر الأكثر تعبيرية في الفيلم إذ عن طريقه يتم ترتيب الشخصيات بحسب أهميتها والمشاهد وفق الوظيفة التي يريد منحها المخرج لها، إذ عن طريقه، يمكن معرفة حدود الصراع الدرامي المتولد في الفيلم[24]. إذ كلما منح المخرج لشخصية من الشخصيات مساحة كبرى من الفضاء إلا ودل هذا على أنها الأكثر قوة من نظيرتها التي لم يمنح لها إلا حيزا صغيرا. كما أنه إذا تم الجمع بين شخصيتين داخل فضاء ضيق، فغالبا ما يدل الأمر على اقترابهما العلائقي، أما إذا حدث العكس، فإن ذلك يوحي باقتراب الصراع بينهما أو أنه على وشك الوقوع بالفعل. إضافة إلى هذا، فإن الفضاء، يستعمل غالبا، في السينما كتأطير خلفي للشخصيات ودال عليها وعلى ماتفكر به، كما أنه يحدد حتى نوعية الفيلم، والزمن الذي يسعى للقبض عليه.
8 – الرواية والسينما: تفاعل مستمر:
نخلص من خلال دراستنا هاته، التي حاولنا فيها أن نحدد بعض التقنيات المتشابهة في كل من الرواية والسينما دون أن ننسى أبدا الاختلافات الحاصلة بينهما، إذ في غياب هذه الاختلافات لا يمكن الحديث عنهما معا، فهذه الاختلافات هي التي تشكل أصالتهما معا إلى القول إن الفنين معا استفادتا من بعضهما البعض، فلقد التجأت السينما في بداية ظهورها وفي لحظاتها من لحظات مسارها التطوري إلى السينما، فإن الرواية، وبعد تحقيق السينما لهويتها الفنية الخاصة بها، قد عادت إلى السينما واستقت منها بعض تقنياتها وحاولت توظيفها في بنائها الروائي. فالسينما قد استفادت من تقنية التبئير الروئي وحاولت تطبيقها في عملية الإخراج والرواية قد رأت في المونطاج السينمائي تقنية جديدة من أجل حركية داخل مسارها السردي وتوظيف مميزات التعبير بالمقاطع انطلاقا منها، وهو ما يدفع بنا إلى دعم عملية الالتقاء الحاصل بينهما والدعوة إلى المطالبة باستمراره، ذلك أن الفن الذي ينغلق على ذاته يموت.
[1] - Jeanne Marie clerc, Littérature et cinéma, éd. Nathan, 1993, p3-4.
[2] - تزفيتان تودوروف، مقولات السرد الأدبي، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد صفا، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1992، ص64.
[3] - رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد، ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد عقار، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي، مرجع سابق، ص9.
[4] - Christian Mets, Essai sur la signification du camera, Ed. Klincksieck, Paris, 1968, p72.
[5] - Jules Deleuze, L’image – mouvement, Ed. Minuit, Paris, 1983, p97.
ـ مشهور مصطفى، السينما تعيد تركيب الأسطورة، مجلة الفكر العربي، العدد 73، السنة 14، يوليوز، شتنبر 1993، ص109-117.
[6] - هاشم النحاس، نجيب محفوظ على الشاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص64-65.
[7] - لوي دي جانيتي، فهم السينما: 8 – السينما والأدب، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون المقالات، 1993، ص46.
[8] - محمد برادة، الرواية أفقا ، مجلة فصول، المجلد 11، العدد 4، السنة، 1993، ص21.
[9] - لوي دي جانيتي، فهم السينما: 10 – نظرية السينما، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون المقالات، 1993، ص5.
[10] - ر.م.ألبيريس، تاريخ الرواية الحديثة، ترجمة جورج سالم، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، 1967، ص462.
ـ د.محمد الزعبي، في الإيقاع الروائي، دار المناهل، بيروت، لبنان، 1995.
[11] - محمد أنقار، الصورة الروائية، بين النقد والإبداع، مجلة فصول، المجلد 11، العدد 4، السنة 1993، ص39.
[12] - لوي دي جانيتي، نظرية السينما، ص29.
[13] - محمد برادة، مرجع سابق، ص20.
[14] - تزفيتان تودوروف، مرجع سابق، ص59.
[15] - هاشم النحاس، مرجع سابق، ص57.
[16] - لودوكا، تقنية السينما، ترجمة فايزكم نقش، منشورات، بيروت، باريس 1989، ص20.
هاشم النحاس، مرجع سابق، ص61.
[17] - لوي دي جانيتي، فهم السينما: 2 – الإخراج، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون المقالات، 1993، ص14.
[18] - لوي دي جانيتي، نفسه، ص26.
[19] - Jeanne Marie clerc, Ibid, p50.
[20] - لودوكا، مرجع سابق، ص86-87.
[21] - Edgar Morin, Le cinéma ou l’homme imaginaire, éd. Minuit, Paris, 1995, p63.
[22] - لوي دي جانيتي، نظرية السينما، ص32.
[23] - رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص25.
[24] - لوي دي جانيتي، الإخراج، ص38.
تعليقات
إرسال تعليق