كتاب البلاغة والأسلوبية pdf
تحميل كتاب البلاغة والأسلوبية pdf
لقد قامت دراسات موسعة وجادة حول البلاغة العربية القديمة تناولتها من جوانبها التاريخية والفنية ، بحيث يمكن القول بأنها غطت مساحة واسعة في هذا المجال . وأعتقد أن هذا اللون من الدراسة كاد أن يستوفي حقه حتى أصبح م ما أن يتجه البحث في البلاغة القديمة على نحو يربطها بالبحث الأسلوبي الحديث ، والإفادة في ذلك بكل العناصر الموروثة التي تمثل في جوهرها قيما تعبيرية تصلح كاساس ( لأسلبة ) البلاغة ، إن صح هذا التعبير .
من هذا المنطلق كان من المحتم أن تُعرض الإمكانات الأسلوبية التي وجدت بشكل أو بآخر داخل مباحث البلاغة ، لا باعتبارها توصيات وتقنينات ولكن باعتبارها طاقات لغوية داخل نسيج التعبير الأدبي . ومن هذا المنطلق - أيضاً - يكون الحديث عن مفهوم الأسلوب في الدراسة القديمة ذا أهمية خاصة ، باعتباره مدخلاً للكشف عن القيم التعبيرية في الصياغة ، وخاصة عند مَن تعرضوا لِلفظة بشكل مباشر ، دون التعرض لمن قدموا بعض المباحث حول التعبير الفني دون ربطه بكلمة الأسلوب صراحة ، وسوف نجد أن فهم الكلمة قد امتد من المشرق إلى المغرب العربي ، وإن كان المغربيون قد أضافوا إليه كثيراً من أفكار أرسطو حول الأسلوب وعناصره . وفي مجال تحديد مفهوم الأسلوب أخذت فلسفة النحو حقها ، باعتبارها ممثلة لطبيعة التركيب في الصياغة ، سواء في مستوى الصحة أو مستوى الجمال والإبداع ، ومن حيث مثلت مباحث النحو في بعض جوانبها ربط التراكيب بالأغراض والمعاني ، وكانت الخبرة بهذه التراكيب هي خبرة بالمعنى في وقت واحد .
وقد أفاد عبد القاهر الجرجاني بما في النحو من إمكانات لتركيبية ، و وظفها بشكل مباشر في محاولة خلق نظريّة لغوية في فهم الأسلوب ، من حيث كان النحو خالقاً لِلنّسق التعبيري الذي يحقق المزيّة والفضيلة ) بجانب المتة والسلامة . وأعتقد أن عبد القاهر نجح في ذلك نجاحا غير محدود ، حيث استطاع من خلال مفهومه للنحو أن يستكشف جوانب خصبة في التراكيب ، فربط نظامها بالفكر اللطيفة ، وكان ذلك مدخله لمناقشة قضية الإعجاز القرآني ، وأطلق على نظريته كلمة دقيقة هي : ( النظم ) .
وتدقيق الرؤية لهذه النظرية يؤكد تكامل جوانبها تنظيراً وتطبيقاً . فمن حيث التنظير فرق عبد القاهر بين اللغة والكلام بشكل محدود ، واعتبر الألفاظ رموزاً اللمعاني ، وأن الفكر لا يتعلق باللفظة المفردة ؛ وإنما يتعلق بما بين المعاني من علاقات ، وأن النحو إمكاناته الواسعة هو الذي يقدم للمبدع كل الاحتمالات الممكنة في تكوين الجملة ، بحيث يكون النظم عملية تسلسل تركيبي للإمكانات النحوية . ويكاد عبد القاهر يتوافق مع الأسلوبين المحدثين في كثير من مباحثه ، وخاصة في الإمكانات الاستبدالية والقدرة التوزيعية ، وفي مقولتهم عن انتهاك اللغة ، وانحرافها عن النمط المألوف ، وذلك بإخضاعه المجاز السيطرة النحو وعلاقاته التركيبية ، إن لم نقل إنه جاوزهم بمقولته عن تجدد المواضعة تبعاً لتجدد الاستعمال . او من حيث التطبيق قدّم الرجل كثيراً من النماذج ، محللاً لها ، كاشفاعن نظامها النحوي ، موضحاً للعلاقات التركيبية في هذا النظام ، وما لكل ذلك من أثر في الدلالة ؛ وصولا إلى فردية الاستعمال وما يترتب عليه من وجود مناطق نحوية أليرة يتحرّك فيها كل مبدع ، وخاصة في المجال الشعري .
↚
غير أن هذا الجهد الوفير شابه الوقوف عند حدود الجملة الواحدة ، مما جعل دراسته مبتورة في كثير من أجزائها . ويكاد يكون المجاز مثلاً لأكبر قيمة في انتهاك النظام اللغوي ، والخروج على مألوفه ، والعُدول فيه يبدو بشكل بارز في تحديد مفهومه على المستوى اللغوي أو المستوى الاصطلاحي ؛ مما جعل له دوراً بارزا في الدلالة ومباحثها ، ودورا بارزا في خلق الصورة الفنية من خلال مباحث الاستعارة والكناية والتمثيل . ودراسة مباحث الأسلوب ومفهومه في الدراسة العربية الحديثة تؤكد عملية التواصل بين القديم والجديد ، من حيث كانت مباحث حسين المرصفي ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وأحمد الشايب وأمين الخولي
قائمة في جوهرها على ما أصله القدماء من دراسات بلاغية ، مع الإفادة في الوقت نفسه من التيارات الخصبة التي وفلت من الغرب مع مطلع نهضتنا الطبيئة ، وإن كان ذلك كله لم يُهنئ لظهور النظرية العربية المتكاملة في دراسة الأسلوب .
والحديث عن الأسلوبية الحديثة هو الوسيلة الصحيحة لعقد المقارنة بينها وبين موروثنا البلاغي ، من خلال تحديد مفهوم الأصالة والمعاصرة ، بحيث لا يكون هناك تعصب . لقديم أو انغلاق أمام جديد . وتأتي مباحث التويات باعتبارها الركيزة الأساسية لمباحث الأسلوبية الحديثة ، التي ولدت على يد دي سوسير ثم نماها بالي ، وتتابعت الدراسات مُشككة أحيانا في إنجازات بالي أو موثقة لها ؛ مما هيا لاكتمال جوانب البحث الأسلوبي على يد رواده من أمثال مبترر وماروزو وألونسو ، أو على يد المدارس اللغوية التي شاركت فيه ، من أمثال الشكلين الروس والمدرسة الفرنسية والألمانية ، وقد أكد كل ذلك ظهور علم العلامات أو ( السيميولوجيا ) كوسيلة فعالة لشرعية الاتجاهات الأسلوبية بما قدمه من جوانب تحليلية ، ساعدت في ربط الأدب باللغة من ناحية ، وربط الأدب بالنقد من ناحية أخرى.
وتتبعنا لمفهوم الأسلوبية يقودنا إلى الاتجاهات المتعدّدة التي برزت من خلال هذا المفهوم ، في رأيناه يغرق في انطباعات ذاتية أحياناً ، ويتجرد في ثوب موضوعي خالص أحيانا أخرى ، وإن كان هذا وذاك يعتمد على علم اللغة وما نئمه من منهج علمي يقارب منهج العلوم الطبيعية في دقته وموضوعيته ، وإن كان ذلك – أيضا – لم يؤد إلى تداخل الاختصاصات ، بحيث ظل علم اللغة مُنصبا على دراسة ما يُقال ، في حين انصبت الأسلوبية على كيفية ما يُقال ، بحيث تتحوّل الحقائق اللغوية إلى قيم جمالية في الأداء الإبداعي دون وقوع في شرك الفصل بين الشكل والمضمون . ويمكن تحديد الاتجاهات الرئيسية في مجال الأسلوبيات بما يتصل بالمستوى العام من غير متابعة تطبيقيّة ، وبما يتصل بالمستوى العام مع التطبيق على النماذج اللغوية ، وما يتصل بالمستوى الفردي من خلال انتهاك اللغة ، أو تكراريتها ، أو من خلال الإحصاءات ، أو من خلال المنبهات الفنية الوفيرة في الأداء الإبداعي .
تحميل pdf
تعليقات
إرسال تعليق