مقاربات النصوص في النقد واللسانيات
تجدرُ الإشارةُ بدايةً إلى أن أيَّ نصٍّ يمكن مقاربتُه بالدراسة والتحليل، وتتعدَّد المجالات المعرفية التي تقارب النص، وذلك حسب نوعه؛ حيث يُمكن التمييز بين أنواع كثيرة من النصوص، وهذا التمييز ليس بالعملية اليسيرة، بل على العكس هو عملية معقَّدة في بعض الأحيان؛ وذلك للتداخل الذي تَعرِفه النصوص، بالإضافة إلى "العدد الهائل من النصوص المتداولة التي تكاد لا تخضع للحصر، ومنها المحادثات اليومية، والأحاديث العلاجية، والمواد الصحفية، والحكايات والقصص، والقصائد، ونصوص الدعاية، والخطب، وإرشادات الاستعمال، والكتب المدرسية، والكتابات، والنقوش، ونصوص القانون، والتعليمات... "[1].
وقد حاول بعض الدارسين وضعَ معايير لتمييز النصوص، ومنهم المعيار الوظيفي عند رومان جاكبسون؛ حيث يصنف النص انطلاقًا من وظيفته المهيمنة، ولكن جاكبسون أكد تداخل الوظائف أثناء الكلام[2]؛ مما يؤكِّد صعوبة التمييز بين النصوص على أساس الوظيفة المهيمنة، فمثلًا تهيمن الوظيفة الشعرية على الشعر مقابل النثر، لكنَّ هناك نصوصًا شعرية تقلُّ فيها هذه الوظيفة، مقابل هيمنتها في نصوص نثرية أو في بعض أجزائها.
وبالرغم من ذلك فإنه يمكن التمييز بين نوعين من النصوص؛ هما: النصوص الأدبية، والنصوص غير الأدبية، ويندرج ضمن هذا النوع الثاني مجموعة من النصوص، منها النصوص العلمية، والنصوص القانونية، والنصوص الفلسفية، ونصوص المحادثات وغيرها، أما النوع الأول فتندرج ضمنه النصوص الشعرية، ونصوص النثر الفني كالرواية والقصة والمسرحية....
وتتعدد المقاربات التي تتناول النصوص بالدراسة والتحليل، فالنص موضوع اشتغال عدد من الفروع المعرفية، أهمها النقد واللسانيات، وإذا كان النقد يركز في مقاربته على النص الأدبي، فإن اللسانيات تقارب النص سواء كان أدبيًّا أم غير أدبي، وسأحاول أن نُسلط الضوء بشكل موجز على بعض الاتجاهات التي تقارب النص بالدراسة والتحليل:
1. في النقد:
هناك عدة مناهج نقدية تدرس النص الأدبي، وهي تختزل وتعكِس العلاقة التي يَربطها النصُّ بمختلف عناصر الظاهرة الأدبيَّة، ويمكن تقسيم المقاربات النقدية إلى مقاربات سياقية ومقاربات نسقية؛ حيث تضم الأولى المنهج التاريخي والمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي، بينما تضم الثانية المناهج التي تركِّز على النص:
• المنهج التاريخي: يربط هذا المنهج بشكل آلي بين النص الأدبي ومحيطه، "وهو نقد عام تأخذه النظرة الشمولية التي يراعى فيها امتزاج الذاتي بالموضوع، وبالعالم الخارجي"[3]، ويهتم بالمبدع والبنية الإبداعية على حساب الإبداع نفسه، ومن أعلام هذا المنهج لانسون وسانت بوف وإيبوليت تين.
• المنهج النفسي: يتميز هذا المنهج بربط الصلة بين النص ولاوعي مُبدعه، اعتمادًا على التحليل النفسي بدل التاريخي، وقد بلور هذا المنهج سيجموند فرويد الذي "كان من الأوائل الذين رسَّخوا بالنظرية والتطبيق علاقة علم النفس بالأدب والفن والنقد؛ إذ تناول بالتحليل النفسي شخصيات الفنانين وأعمالهم الفنية وعملية الخلق الفني والمتلقي"[4]، وقد طبق فرويد نظريته على شخصيتي "ليوناردو دافنشي" و"دوستويفسكي" وأعمالهما الفنية، ويبحث هذا المنهج من خلال النص عن عالم اللاشعور عند المؤلف، وهو يُشكك في مقصدية المبدع؛ مما يفتح الباب أما المتلقي المحلل للتأويل؛ أي: تأويل ما طفا في النص من رموز تكشف حقيقة اللاشعور عند المبدع، وقد تطوَّرت نظرية التحليل النفسي على يد عدد من الباحثين أشهرهم كارل غوستاف يونغ وشارل بودوان وشارل مورون[5].
• المنهج الاجتماعي: يقوم هذا المنهج على تفسير "كيف أن الأدب ذو طبيعة اجتماعية"[6]، وهو يربط بين النصوص، وظروف إنتاجها، ولهذا فالنص حسب هذا المنهج "بِنية دلالية تنتجها ذاتٌ ضمنَ بنية نصيَّة منتجة في إطار بنية أوسع اجتماعية وتاريخية وثقافية"[7]، ويرى زيما P.ZIMA في كتابه (من أجل سوسيولوجيا النصِّ الأدبي 1978) أن النصَّ "ذو بنية مستقلة وتواصلية في آن، وأنه (دليل) يتألف من العمل المادي رمزًا حسيًّا، ومن الموضوع الجمالي الذي يُمثل المعنى"[8]، فالنص تداخل بين الجانب اللغوي والجانب السوسيولوجي الذي لا يظهر إلا من خلال اللغة؛ أي: إنه حسب المنهج الاجتماعي بوتقة لتجلِّي البنيات اللغوية، والبنيات الاجتماعية وظهورها وانصهارها.
• المنهج الشكلاني والمنهج البنيوي: يعود أصل المنهج الشكلاني "إلى فعاليات حلقة موسكو اللغوية وجمعية دارسي اللغة الأدبية opojaz في بطرسبورغ، اللتين اهتمتا بدراسة اللغة الشعرية"[9]، وقد بحثت الشكلانية في أدبية الأدب "أي تلك الخاصية التي تجعل عملًا ما أدبيًّا"[10]، وأشهر من مثل هذا المنهج فيكتور شكلوفسكي، ورومان جاكبسون، وبويرس إيخنباوم، وأوسيب براك، ويوري تنيانوف[11]، وقد كان للشكلانية تأثيرٌ عظيم في تطور النقد والنظرية الأدبية.
أما المنهج البنيوي فهو في الحقيقة امتداد للشكلانية، وتمثل هذا الامتداد أولًا في بنيوية حلقة براغ، ثم في البنيوية الفرنسية التي ظهرت بعدما ترجم تودروف أعمال الشكلانيين الروس للفرنسية، وتُركز البنيوية على المقاربة الداخلية للنصوص، فشعارها النص ولا شيء غير النص، وهذا يعني رفضها التام لجميع أشكال المقاربة الخارجية، إلا أن طبيعة النصوص فرضت تجاوز البنيوية، ويظهر هذا التجاوز في عدد من المناهج؛ منها: المنهج البنيوي التكويني والمنهج السيميائي، والمنهج التفكيكي... كما تم تجاوز صرامة البنيوية مع مفهوم التناص الذي حطم "فكرة المركز، والنظام، والبنية، والشكل والمضمون، والوحدة الموضوعية المتوهمة، وأصبح النصُّ ينطوي على أبنية متعددة، متنوعة، متوالدة، بلا توقف"[12]،وبذلك أصبح النص بنية غير منتهية، وغير منغلقة.
2. في اللسانيات:
إن كلَّ فروع اللسانيات تتخذ من اللغة موضوعًا لها، وتدرسها من خلال أربعة مستويات: المستوى الصوتي (علم الأصوات أو الفونتيكا، وعلم وظائف الأصوات أو الفونولوجيا)، المستوى الصرفي (علم الصرف المورفولوجيا)، المستوى النحوي (علم التركيب)، المستوى الدلالي (علم الدلالة)، وإذا كانت هذه الفروع تدرس الجملة، فإن اللسانيات قد انفتحت على دراسة النص، كما نجد في التداولية ولسانيات النص.
• التداولية: إن التداولية تيار لساني يهتم بدراسة علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، فهو يبحث في "القوانين الكلية للاستعمال اللغوي والقدرات الإنسانية للتواصل اللغوي"[13]، وكان لهذا التيار إرهاصات في أعمال شارل موريس وبيرس، لكنَّ ظهوره الفعلي كان سنة 1955مع فلاسفة جامعة أوكسفورد؛ كأوستين Austin وغرايس Grice وسيرل Searl، خاصة عندما ألقى أوستين محاضرات ضمن برنامج وليام جيمس بجامعة هارفارد، فلقد انطلق أوستين من ملاحظة أن بعض الجمل لا تستعمل لوصف الواقع بل لتغييره، أو على الأقل لمحاولة تغييره، ففي جملة مثل: "اصمت أو آمرك بالصمت"، "لا تقول شيئًا عن حالة الكون، إنما تسعى إلى تغييره، فقائل: آمرك بالصمت، يسعى إلى فرض الصمت على مخاطبه"[14]، ويُميز أوستين في الفعل الكلامي بين ثلاثة أنواع: "العمل الأول هو العمل القولي، وهو العمل الذي يتحقق ما إن نتلفظ بشيء ما، أما الثاني فهو العمل المتضمن في القول، وهو العمل الذي يتحقق بقولنا شيئًا ما، وأما الثالث فهو عمل التأثير بالقول وهو العمل الذي يتحقق نتيجة قولنا شيئًا ما"[15].
لقد تأثر بآراء أوستين وسيرل عدد من اللسانيين، ومنهم أوزوالد ديكروا الذي لاحظ أن شروط استخدام اللغة تؤثر في الدلالات اللغوية، كما تأثر بالتداولية جون روس الذي اشتَهر بفرضيته الإنشائية، وخلاصة هذه الفرضية "أن كلَّ الجمل التي لا تتضمن في بنيتها السطحية فعلًا إنشائيًّا صريحًا، لها في بنيتها العميقة سابقة إنشائية"[16].
• لسانيات النص: سيطرت دراسة الجملة على الدراسات اللسانية منذ اللسانيات التقليدية مرورًا بالبنيوية والتوليدية؛ حيث تعتبر الجملة هي أكبر وَحدة للتحليل، يقول بلومفيلد معرفًا الجملة بأنها "شكل لغوي مستقل، لا يدخل - عن طريق أيِّ تركيب نحوي - في شكل لغويٍّ أكبر منه"[17]، وهذا يعني أن اشتغال اللساني يقف عند حدود الجملة، فليس له موضوع أكبر من الجملة، لكن نظرة اللسانيات تغيرت لموضوعها؛ حيث توسع ليشمل النص، فتكوَّن فرعٌ جديد في اللسانيات، استفاد من مشارب وعلوم أخرى، يسمى لسانيات النص، أو اللسانيات النصية، أو علم اللغة النصي، أو علم لغة النص، إلى غير ذلك من الترجمات.
إن لسانيات النص فرع من فروع اللسانيات ظهر منذ ستينيات القرن العشرين "يدرس بنية النصوص وكيفية اشتغالها"[18]، وهو علم يبحث في النصوص، وأنواعها، واتساقها وانسجامها ... إلى غير ذلك من المباحث المهمة لهذا العلم الذي انفتح على فروع معرفية متعددة.
ولقد عرف العرب قديمًا بعض المباحث التي تُعَد من صميم لسانيات النص، كما نجد في كتب البلاغة والنقد، وكانت لهم بصمات في ذلك، أما في العصر الحديث فأغلب الدراسات تنطلق مما وصل إليها الغرب في المجال، بالإضافة إلى بعض الدراسات التي حاولت ربط الإسهامات الغربية بالموروث العربي القديم، سواء على سبيل المقارنة، أو لتأكيد أسبقية العرب القدامى، ولقد تعدد الباحثون الذين اشتغلوا ويشتغلون على لسانيات النص، ومباحثه سواء تنظيرًا أم تطبيقًا، ولعل أشهرهم محمد خطابي، وصلاح فضل، والأزهر الزناد، وسعيد بحيري، وإلهام أبو غزالة، وعلي خليل أحمد، ومحمد الأخضر الصبيحي، وحسين خمري... وغيرهم.
أما عند الغربيين فقد كانت للسانيات النص إرهاصاتٌ عند العديد من اللسانيين، أبرزهم هاريس الذي يعدُّ من أوائل من حاول إدخال النص لحيز اهتمام اللسانيات؛ إذ أشار في بحثه "تحليل الخطاب" 1951م إلى ضرورة تجاوز الجملة في التحليل النحوي، وضرورة تسليط الضوء على علاقة اللغة بالسلوك والثقافة[19]، وتعد آراء هارتمان 1964م من أهم الإسهامات الأولى في لسانيات النص، فهو يرى أن النص هو الأحق بالدراسة؛ لأنه يحقق التواصل، فالنص عنده هو "كلُّ استعمال لغوي في شكل تواصلي أو اجتماعي"[20].
أما فان دايك فأعماله رائدة، ومؤسِّسة للدراسات النصية، ومنها مقاله الشهير الذي نشره سنة 1972م بعنوان: "جوانب في نحو النص"، وهذا ما جعل بعض اللغويين يعده المؤسس الحقيقي لعلم النص [21]، لكنَّ البحث اللساني النصي تبلور بشكل أكثر وضوحًا على يد هاليداي ورقية حسن في كتابهما الشهير "الاتساق في الإنجليزية" 1976م، وكذلك كان لبراون ويول إسهامات مهمة من خلال كتابهما "تحليل الخطاب" 1983م ... وغير ذلك من الباحثين أمثال: "ستمبل وجليسون وهارفج وشميت ودريسلر وبرنكر"[22].
وبلغ هذا العلم ذِروته مع بوجراند الذي أسهم بقدر كبير في تطوير البحث في اللسانيات النصية، سواء في كتابه "النص: الخطاب والإجراء" أم في كتابه المشترك مع دريسلر "مدخل إلى علم لغة النص"، وقد اشتهر بوجراند ودريسلر بمعاييرهما النصية التي تجعل من متتالية لفظيَّة نصًّا.
[1] فان دايك، علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، تر: سعيد بحيري، دار القاهرة للكتاب، ط1، 2001، ص11.
[2] ينظر: محمد الأخضر الصبيحي، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، الدار العربية للعلوم، ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، 2008، ص 111.
[3] حميد لحمداني، رؤية جديدة للنقد التاريخي في الأدب: من دائرة التاريخ إلى دائرة السيميولوجيا، فكر ونقد، ع 28، أبريل، 2000.
[4] زين الدين المختاري، المدخل إلى نظرية النقد النفسي: سيكولوجية الصورة الشعرية في نقد العقاد نموذجًا، منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998، ص 11.
[5] يراجع: زين الدين المختاري، المدخل إلى نظرية النقد النفسي، ص14 وما بعدها.
[6] إنريك أندرسون إمبرت، مناهج النقد الأدبي، ترجمة: الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب القاهرة، بدون طبعة، 1991، ص117.
[7] محمد عزام، النص الغائب: تجليات التناص في الشعر العربي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001،ص 15.
[8] المرجع نفسه، ص 22.
[9] ك.م.نيوتن، نظرية الأدب في القرن العشرين، ترجمة: عيسى علي العاكوب، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، 1996، ص19.
[10] المرجع نفسه، ص ن.
[11] المرجع نفسه، ص ن.
[12] شكري الماضي، ما بعد البنيوية، حول مفهوم التناص، مجلة المعرفة السورية، ع353، فبراير 1993، ص94، عن عصام حفظ الله واصل، التناص التراثي في الشعر العربي المعاصر، دار غيداء، ط1، 2011، ص15.
[13] مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2005، ص 16 - 17.
[14] آن روبول وجاك موشلار، التداولية اليوم، علم جديد في التواصل، ترجمة: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2003، ص30.
[15] المرجع نفسه، ص31 - 32.
[16] المرجع نفسه، ص35.
[17] فولفجانج هنيه من، ديتر فيهجر، مدخل إلى علم اللغة النصي، ترجمة: فالح العجمي، جامعة الملك سعود، 1999، ط1، ص19.
[18] محمد الأخضر الصبيحي، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، ص 59.
[19] خالد حميد نصري، اللسانيات النصيَّة في الدراسات العربيَّة الحديثة رسالة دكتوراه، كلية التربية، جامعة بغداد، 2013، ص13.
[20] المرجع نفسه، ص15.
[21] محمد الأخضر الصبيحي: مدخل إلى علم النص، ص62.
[22] المرجع نفسه، ص63، عن سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي، ص15 - 16.
المصدر
تعليقات
إرسال تعليق